• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : المقالات والأبحاث .
                    • الموضوع : آسية بنت مزاحم نموذج المرأة المجاهدة .

آسية بنت مزاحم نموذج المرأة المجاهدة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد رسول الله وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد..

فإن هناك من يظن أن على المرأة أن تعيش حالة التبعية للرجل، وتكون بمثابة الصدى، أو الظل له، تتلقى أوامره، وتخضع لإرادته. زاعماً أنها لا تقوى على الاستقلال عنه، ولا تستطيع أن يكون لها رأي، أو فكر، أو اعتقاد، سوى رأيه واعتقاده وفكره. وربما يحاول بعضهم أن يتخذ مما ورد من أن المرأة على دين زوجها، ذريعة بتأكيد هذا القول..

ولكن من الواضح: أن المرأة وإن كانت شديدة التأثر بزوجها، لكن الأمر لا يصل إلى حد فقدانها إرادتها بصورة تامة. والقول المأثور إنما سياقه سياق المبالغة ليفيد أن الغالب في النساء هو ذلك..  والأحداث والوقائع تشهد بما نقول، كما أن تعاليم الإسلام وما ورد في كتاب الله وصرح به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) يؤكد هذه الحقيقة.

فإن المرأة في الإسلام إنسان كامل، أهّلها الله لأن تكون موضع كرامة الله، وتتلقى الخطاب الإلهي، والتكليف الرباني.. وتتوجه إليها الأوامر والزواجر التي تناسب واقعها الذي تفرضه طبيعة خلقها، ويفرضه الكمال المنشود في تكوينها، وفي الصنع الإلهي للبشرية في سياق هدايتها نحو الكمال، وسوقها نحو الغايات الكبرى التي أراد الله لها أن تسعى إليها، وتحصل عليها.

فكانت المرأة هي ذلك المخلوق، الذي لا مجال لأن يُفرض عليه الرأي والاعتقاد، ما دامت تملك العقل والتمييز، والإرادة والاختيار، وينسحب ذلك على مختلف الشؤون والحالات، خصوصاً فيما يرتبط بالناحية  الاعتقادية والإيمانية.

فها هو أعظم المستكبرين، وأشدهم علواً وعتواً، والذي بلغ في استكباره حداً ادعى فيه الربوبية ـ ها هو ـ قد عجز عن فرض إرادته على المرأة، رغم أنها كانت محاصرة بكل القوى ومحاطة بظروف شديدة القسوة، من شأنها أن تُسقط إرادتها، ولكنها كانت أقوى من ذلك كله، ففرضت إيمانها وإرادتها، وهزمت كل تلك القوى العاتية، وباء ذلك المستكبر المدعي للربوبية بالفشل الذريع، والخيبة القاتلة.. وأقصد بها:

آسية بنت مزاحم امرأة فرعون بالذات.

نعم.. وهذه هي المرأة التي أراد الإسلام لها ـ كما أراد لمريم بنت عمران، وخديجة، والزهراء عليهن السلام ـ أن تكون النموذج الرائد، والمثل والأسوة للنساء في هذه الحياة، وأن تكون مظهراً لإرادة الله تعالى على هذه الأرض، وتجسيداً لحكمته، وإظهاراً لبديع صنعه..

فماذا عن هذه المرأة النموذج الفذ، والمتفرد، التي فاقت نساء عصرها، ونالت الأوسمة الكبرى، ولكن لا من الناس العاجزين والقاصرين، وإنما من مصدر الكمال والقدرة، والعزة والكبرياء، حيث قدمها الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) لتكون نموذجاً، وقدوة، وأسوة، ومثالاً يُحتذى، وقمة للكمال الإنساني، فاقت نساء عصرها كلهن صلوات الله وسلامه عليها، فكانت بحق سيدة نساء عالمها كله.

آسية بنت مزاحم المرأة الشهيدة:

لقد كانت آسية بنت مزاحم، زوجة فرعون ـ كما يقول المجلسي ـ «امرأة من بني إسرائيل، وكانت مؤمنة ومخلصة وكانت تعبد الله سراً.

وكانت على ذلك إلى أن قتل فرعون امرأة حزبيل، فعاينت حينئذٍ الملائكة يعرجون بروحها، لما أراد الله بها من الخير، فزادت يقيناً، وإخلاصاً، وتصديقاً.

فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون، يخبرها بما صنع بها.

فقالت: الويل لك يا فرعون، ما أجرأك على الله جل وعلا.

فقال لها: لعلك قد اعتراك الجنون الذي اعترى صاحبتك؟.

فقالت: ما اعتراني جنون، لكن آمنت بالله، ربي، وربك، ورب العالمين.

فدعا فرعون أمها، فقال لها: إن ابنتك أخذها الجنون، فأقسم لتذوقن الموت، أو لتكفرن بإله موسى. فخلت بها أمها، فسألتها موافقة [فرعون] فيما أراد، فأبت، وقالت: أما أن أكفر بالله، فلا والله لا أفعل ذلك أبداً.

فأمر بها فرعون حتى مدّت بين أربعة أوتاد، ثم لا زالت تعذب حتى ماتت، كما قال الله سبحانه: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأوْتَادِ}(1).

وعن ابن عباس:

«قال: أخذ فرعون امرأته آسية، حين تبين له إسلامها يعذبها لتدخل في دينه، فمر بها موسى (عليه السلام) وهو يعذبها، فشكت إليه بإصبعها، فدعا الله موسى أن يخفف عنها، فلم تجد للعذاب مساً، وإنها ماتت من عذاب فرعون لها.

فقالت وهي في العذاب:

{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}(2).

فأوحي إليها: أن ارفعي رأسك، ففعلت، فأُريت البيت في الجنة بني لها من درّ، فضحكت.

فقال فرعون: انظروا إلى الجنون الذي بها، تضحك وهي في العذاب»(3).

وقيل: إنها لما عاينت المعجز من عصا موسى (عليه السلام)، ووقوع الغلبة على السحرة، أسلمت.

فلما ظهر لفرعون إيمانها نهاها، فأبت. فأوتد يديها ورجليها بأربعة

ـــــــــــــــ

(1) بحار الأنوار ج13 ص164.

(2) سورة التحريم، الآية11.

(3) بحار الأنوار ج13 ص164. عن عرائس الثعلبي ص106 و 107 طبع مصر. أوتاد، وألقاها في الشمس. ثم أمر أن يُلقى عليها صخرة عظيمة، فلما قرب أجلها قالت:

{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}(1).

فرفعها الله تعالى إلى الجنة، فهي فيها تأكل وتشرب، عن الحسن وابن كيسان.

وقيل: إنها كانت تعذب بالشمس، واذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة، وجعلت ترى بيتها في الجنة، عن سلمان(2).

للبيان والتوضيح:

ولتوضيح بعض ما يرتبط بهذه المرأة المجاهدة الصابرة، آسية بنت مزاحم الشهيدة، نذكر هذا المقطع من كتاب: «مأساة الزهراء» فنقول:

1 ـ إن آسية بنت مزاحم امرأة في مقابل رجل، هو فرعون بالذات.

2 ـ وفرعون هذا هو الزوج المهيمن والقوي، وهو يتعامل مع هذه المرأة الصالحة من موقع الزوجية.

3 ـ وفرعون الرجل والزوج، لا يملك شيئاً من المثل والقيم الإنسانية والرسالية، ولا يردعه رادع عن فعل أي شيء، وفي أي موقع من مواقع حياته، فهو يسترسل مع شهواته، وطموحاته، ومصالحه، بلا حدود ولا قيود، ودونما وازع أو رادع.

ـــــــــــــــ

(1) سورة التحريم، الآية11.

(2) بحار الأنوار ج13 ص164 و165 عن مجمع البيان ج10 ص319. أما آسية فعلى النقيض من ذلك، ترى نفسها محكومة لضوابط الدين والقيم والمثل، وهي تهيمن على كل وجودها فلا تستطيع أن تسترسل في حركتها، ولا يمكنها أن تتوسل بكل ما يحلو لها.

4 ـ وفرعون يمثل أقصى حالات الاستكبار في عمق وجوده، وذاته، حتى ليدعي الربوبية، ويقول للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى}(1)، فلا يرى أن أحداً قادر على أن يخضعه، أو أن يملي عليه رأيه وإرادته، بل تراه يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل أهوائه وطموحاته.

فرعون هذا تتحداه امرأته!! في صميم كبريائه، وفي رمز استكباره وعلوه، وعنفوانه، وعمق طموحاته، في ادعائه الربوبية، وفي كل ما يرتكبه من موبقات، وما يمثله من انحراف.

5 ـ وفرعون ملك لديه الجاه العريض، وغرور السلطان، وعنجهيته، وجاذبيته، وعنفوانه، وزهوه. وما أحب تلك المظاهر الخادعة إلى قلب المرأة، وما أولعها بها.

وإذا كانت المرأة تميل إلى الزهو، فإنها إلى زهو الملك العريض أميل، وإذا كان الجاه العريض يستثيرها، فهل ثمة جاه كجاه السلطان، فكيف وهو يدعي الربوبية لنفسه؟!

6 ـ أما المغريات فهي بكل صنوفها، وفي أعلى درجات الإغراء فيها، متوفرة لفرعون، فلديه الدور والقصور، والبساتين، والحدائق الغناء، ولديه

ـــــــــــــــ

(1) سورة النازعات، الآية24. اللذائذ والأموال، والخدم والحشم، ولديه الزبارج والبهارج وزينة الحياة الدنيا.

وهل ثمة أحب إلى قلب المرأة من القصر الشاهق، ومن الأثاث الفاخر، واللائق، ومن وصائف كالحور، وغير ذلك من بواعث البهجة والسرور؟!

7 ـ وعند فرعون الرجال والسلاح، وكل قوى القهر، والتسلط، والجبروت، والهيمنة، ولذلك أثره في بث الرهبة، والرعب في قلب كل من تحدثه نفسه بالتمرد، والخلاف.

8 ـ وعند فرعون أيضاً المتزلفون، والطامعون، والطامحون، الذين هم وسائله وأدواته الطيعة، التي تحقق رغباته، وتلبي طلباته، مهما كانت، وفي أي اتجاه تحركت.

9ـ وهناك الواقع المنحرف الذي تهيمن عليه المفاهيم الجاهلية. والجهل الذريع، والافتتان الطاغي بالحياة الدنيا، هذا الواقع الذي تفوح منه الروائح الكريهة للشهوات البهيمية، وتنبعث فيه الأهواء، وتضج فيه الجرائم.

10ـ وفي محيط فرعون، تريد امرأة فرعون أن تتخلى عن لذات محسوسة وحاضرة من أجل لذة غائبة عنها، مع أن الإنسان كثيراً ما يرتبط بما يحس ويشعر به، أكثر مما يرتبط بما يتخيله أو يسمع به، بل هو يستصعب الانتقال من لذة محسوسة إلى لذة أخرى مماثلة لها، فكيف يؤثر الانتقال إلى ما هو غائب عنه، ولا يعيشه إلا في نطاق التصور والأمل بحصوله في المستقبل، ثقة بالوعد الإلهي له.

بل إنها (عليها السلام) تريد أن تستبدل لذة وسعادة ونعيماً حاضراً بألم وشقاء، وبلاء، بل بموت محتم لقاء لذة موعودة.  11ـ وبعد ذلك كله، إن هذه المرأة لا تواجه رجلاً كسائر الرجال، بل تواجه رجلاً عُرف بالحنكة، والدهاء، والذكاء.

فكما كان عليها أن تواجه استكباره، وسلطانه، وبغيه، وكل إرهابه، وإغرائه، فقد كان عليها أيضاً أن تواجه مكره، وأحابيله، وتزويره، وأساليبه الذكية الخداعة، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه.

وقد ظهرت بعض فصول هذا الكيد والمكر في الحوار الذي سجله الله سبحانه له مع موسى (عليه السلام)، ومع السحرة الذين جاء بهم هو، فآمنوا بإله موسى (عليه السلام).

خلاصة:

كانت تلك بعض لمحات الواقع الذي واجهته امرأة فرعون، التي هي من جنس البشر، ومن لحم ودم، لها ميولها، وغرائزها، وطموحاتها، ومشاعرها، وأحاسيسها.

وقد واجهت رحمها الله كل هذا الواقع الصعب بصبر وثبات، ولم تكن تملك إلا نفسها، وقوى إرادتها، وقويم وعيها، الذي جعلها تدرك: أن ما يجري حولها هو خطأ، وجريمة، وانحراف وخزي، فرفضت ذلك كله من موقع البصيرة والإيمان، وواجهت كل وسائل الإغراء والقهر، ولم تبال بحشود فرعون، ولا بأمواله، ولا بجاهه العريض، ولا بزينته ومغرياته، ولا بمكره وحيله وحبائله..

وطلبت من الله سبحانه وتعالى أن يهيء لها سبل النجاة من فرعونية فرعون، ومن أعمال فرعون، ومن محيط القوم الظالمين.

ولم يؤثر شيء من ذلك كله، من البيئة والمحيط وغير ذلك، في زعزعة  ثقتها بدينها وربها، أو في سلب إرادتها، أو في سلامة وصحة خيارها واختيارها.

وكان دعائها:

{إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1).

فهي تعتبر الابتعاد عن فرعون، وعن ممارسات فرعون نجاة، وتعتبر الابتعاد عن دنس الانحراف والخروج من البيئة الظالمة نجاة أيضاً..

وهي لا تريد من الله قصوراً ولا زينة، ولا ذهباً ولا جاهاً، بل تريد أن تفوز بنعمة القرب منه تعالى. المعبر عنه بكلمة: {عِنْدَكَ}، وبمقام الرضا، على قاعدة: «رضا الله رضانا أهل البيت»، كما قالت زينب (عليها السلام).

والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين..

ـــــــــــــــ

(1) سورة التحريم، الآية11.

 


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=115
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28