بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيبه محمد وأهل بيته الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
ورد في عدة روايات عن أهل البيت «عليهم السلام» في الجواب عن السؤال: بأن أول شيء خلقه الله عز وجل، من أي شيء خلقه؟!
قالوا: «لا من شيء»، أو «لا من شيء كان قبله».
هل المراد من قوله: «لا من شيء»، أي «من شيء».
(يعني: من موجود)؟! أو «من لا شيء» (يعني: من عدم)؟!
أو لهذه العبارة معنى آخر؟!
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وله، الحمد، والصلاة والسلام على محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
لا شك في أن المراد بالخلق: الإبداع الابتدائي، من دون أي منشأ، أو مبدأ، وعلى غير مثال كان قبله، فقد روي عن الإمام الصادق «عليه السلام» أنه قال: لا يكوِّن الشيء لا من شيء إلا الله، ولا ينقل الشيء من جوهريته إلى جوهر آخر إلا الله، ولا ينقل الشيء من الوجود إلى العدم إلا الله(1).
وفي مسائل الشامي للإمام الباقر «عليه السلام» قال الشامي: فالشيء خلقه من شيء، أو من لاشيء؟!
فقال «عليه السلام»: خلق الشيء لا من شيء كان قبله، ولو خلق الشيء من شيء. إذن.. لم يكن له انقطاع أبداً، ولم يزل الله إذن، ومعه شيء. ولكن كان الله ولا شيء معه، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه، وهو الماء(2).
وفي خطبة لأمير المؤمنين «عليه السلام»: «الحمد لله الذي لا من شيء كان. ولا من شيء كوَّن ما قد كان»(3).
وفي خطبة أخرى له «عليه السلام»: «الحمد لله الواحد الأحد، الصمد، المتفرد، الذي لا من شيء كان. ولا من شيء خلق ما كان»(4).
وأملى الرضا «عليه السلام» على محمد بن زيد: «الحمد لله فاطر الأشياء، ومبدعها ابتداءً بقدرته وحكمته، لا من شيء فيبطل الاختراع، ولا لعلة فلا يصح الابتداع إلخ..(5).
وفي أجوبة الإمام الرضا «عليه السلام» لفتح بن يزيد الجرجاني، قال «عليه السلام»: «وإن كل صانع شيء فمن شيء صنع. والله الخالق اللطيف الجليل، خلق وصنع لا من شيء»(6).
وعن الإمام الصادق «عليه السلام»: «ليس بين الخالق والمخلوق شيء. والله خالق الأشياء لا من شيء»(7).
قال المجلسي«رحمه الله»: «أي ليس بينه تعالى وبين خلقه حقيقة مشتركة، حتى يمكنهم معرفته من تلك الجهة، بل أوجدهم لا من شيء كان»(8).
وبعدما تقدم نقول:
لم أجد في أي من الروايات أو الآيات الشريفة التعبير بأنه تعالى خلق الأشياء من لا شيء. بل الروايات المتقدمة صريحة بأنه تعالى خلق الأشياء لا من شيء ..
والفرق بين التعبيرين ظاهر، فإن عبارة «من لا شيء»، وإن كانت تفيد معنى العدم. ولكن قد يكون هناك من يحاول الاصطياد في الماء العكر، فيدعي أن هذا التعبير «خلق الأشياء من لا شيء» يفيد أن اللاشيء، ليس هو مطلق العدم، بل هناك مستوى من الوجود كامن فيه، وقد يسميه البعض وجوداً استعدادياً، أو تخيلياً، أو ماهوياً، أو غير ذلك، يصلح أن يكون مبدأ ومنشأ للخلق..
بل ذكر العلامة المجلسي «رحمه الله»(9): أن الفلاسفة كانوا يقولون بالعقول والهيولي القديمة، أو أن الله خلق الأشياء من تركب النور والظلمة(10)، فردَّ عليهم أمير المؤمنين بقوله: «لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، ولا من أشياء أبدية»(11).
ولعل ما أشرنا إليه من أن المطلوب هو دفع توهم أن تكون كلمة من لا شيء تدل على سبق مستوى من الوجود التوهمي أو الاستعدادي، يكون مبدأً ومنشأً لخلق الأشياء ـ لعل هذا ـ هو الأقرب، ويشهد لما نقول قصتان:
أولاهما: ما روي من أن ملك الروم كتب إلى معاوية يسأله عن خصال. فكان فيما سأله: أخبرني عن لا شيء. فتحير معاوية. فاقترح عمرو بن العاص عليه أن يرسل مع رجل فرساً لتباع في معسكر علي «عليه السلام»، فإذا سئل عن الثمن المطلوب، يقول: بلا شيء.
ففعل معاوية ذلك، فجاء بالفرس إلى معسكر علي «عليه السلام»، فمر به «عليه السلام» ومعه قنبر، فقال «عليه السلام» لقنبر: ساومه. فساومه، فقال: بلا شيء.
قال «عليه السلام»: خذ منه.
قال: أعطني لا شيء..
فأخرجه إلى الصحراء، وأراه السراب.
فقال: ذاك لا شيء.
قال: إذهب فخبِّره.
قال: وكيف قلت؟!
قال أما سمعت بقول الله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾(12)؟!(13).
الثانية: ما روي عن سماعة، وملخصه: أن رجلاً سأل أبا حنيفة عن الشيء، وعن لا شيء، وعن الذي لا يقبل الله غيره.
فأخبره عن الشيء، وعجز عن اللاشيء،. فقال إذهب بهذه البغلة إلى إمام الرافضة فبعها منه بلا شيء، واقبض الثمن.
فأخذها، وأتى بها إلى علي «عليه السلام»، فاشتراها منه بلا شيء. وأدخلها المربط.
فبقي محمد بن الحسن ساعة ينتظر الثمن، فلما أبطأ الثمن طالبه به، فقال له: الميعاد إذا كان الغداة.
فأخبر الرجل أبا حنفية بالأمر، فسره ذلك.
ثم جاء أبو حنيفة في اليوم التالي ليقبض الثمن، وهو «لا شيء»، فركب الإمام «عليه السلام» تلك البغلة، وركب أبو حنيفة دابة أخرى، وخرجا إلى الصحراء.
فلما ارتفع النهار نظر أبو عبد الله إلى السراب يجري، قد ارتفع كأنه الماء الجاري، وكان ذلك عند تل بدا لهما من بعيد، فسأل أبا حنيفة عنه.
فقال أبو حنيفة: ذاك الماء يا ابن رسول الله.
فلما وافيا ذلك التل وجداه أمامهما، فتباعد. (أي ذلك السراب).
فقال أبو عبد الله: اقبض ثمن البغلة. قال الله تعالى: ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا﴾(14).
فخرج أبو حنيفة إلى أصحابه كئيباً حزيناً، فسألوه عن سبب حزنه، فقال: ذهبت البغلة هدراً(15).
فالإلتزام بالتوصيف الوارد في النصوص، من أن الله تعالى خلق الأشياء لا من شيء هو المتعين، لأنه الأبعد عن أية شبهة يمكن أن تثار من قِبَلِ مرضى القلوب.
والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله..
(1) بحار الأنوار ج4 ص147 و148 وج54 ص46 عن التوحيد للصدوق ص32.
(2) بحار الأنوار ج54 ص67 عن التوحيد ص32.
(3) بحار الأنوار ج4 ص221 عن التوحيد ص33 وعن عيون أخبار الرضا.
(4) بحار الأنوار ج4 ص269 عن التوحيد للصدوق، وعن كتاب الغارات.
(5) بحار الأنوار ج4 ص263 عن علل الشرايع والتوحيد.
(6) بحار الأنوار ج4 ص292 عن التوحيد.
(7) بحار الأنوار ج4 ص61 عن التوحيد.
(8) بحار الأنوار ج4 ص165.
(9) بحار الأنوار ج4 ص296.
(10) بحار الأنوار ج4 ص296 (هامش).
(11) بحار الأنوار ج4 ص295 و307 ونهج البلاغة ج2 ص66 الخطبة رقم 163 والتوحيد للصدوق ص79.
(12) الآية 39 من سورة النور.
(13) بحار الأنوار ج10 ص84 عن مناقب آل أبي طالب ج2 ص382 و 383 والبرهان (تفسير) ج5 ص399.
(14) الآية 39 من سورة النور.
(15) الإختصاص ص190 والبرهان (تفسير) ج5 ص399 ـ 400 وبحار الأنوار ج11 ص176.
|