بسم الله الرحمن الرحيم
الآيات الكريمة:
إن الله سبحانه وتعالى قد وهب لإبراهيم ولده إسماعيل (عليهما السلام) بعد أن طعن في السن. وبلغ من الكبر عتياً، قال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}(1).
وحين جاءت الملائكة إلى إبراهيم (عليه السلام) بالبشرى فوجل منهم: {قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ
ـــــــــــــــ
(1) سورة إبراهيم، الآية 39. تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}(1).
وكان الفاصل بين البشارتين بإسماعيل، وبإسحاق (عليهما السلام) خمس سنوات، وذكرت الآيات البشارة بإسحاق (عليه السلام) مصرحة بشيخوخة إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى ءأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ}(2).
وقال تعالى: {قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ}(3).
ولما كبر هذا الولد، وصار يذهب ويجيء أمر الله أباه بذبحه. قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ
ـــــــــــــــ
(1) سورة الحجر، الآيات 53 ـ 55.
(2) سورة هود، الآيات 69 ـ 72.
(3) سورة الذاريات، الآيات 28 ـ 30.
الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}(1).
وقد كانت قضية الذبح هذه هي البلاء المبين، الذي بيَّن وأظهر حقيقة إبراهيم (عليه السلام) وكانت هي الكلمة الأكثر صراحة وإيضاحاً لاستحقاق إبراهيم (عليه السلام) لمقام الإمامة، الذي أعطي له بمجرد أن قام بهذا الأمر العظيم..
قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}(2).
طريقة التعاطي مع هذا الحدث:
إننا قبل أن ندخل في البحث نذكّر القارئ الكريم بأننا سوف نجري الحديث فيه وفقاً للنظرة العادية للأمور، وبغض النظر عن مقام الاصطفاء الإلهي، وعن مرتبة النبوة، لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام).. ولذلك فإن تعابيرنا عن مقاصدنا سوف تكون في هذا السياق.. فليلاحظ ذلك..
الوليد الجديد والوحيد:
إن من يقضي عمره بلا ولد، ويبلغ سن الشيخوخة.. ثم يولد له، فإن تعلقه بولده سيكون أشد من تعلق الناس بأبنائهم، حين يولدون لهم وهم في سن الشباب. فكيف إذا كان هذا الولد وحيداً لأبويه الطاعنين في السن، فإن الحب له سيكون مضاعفاً، والالتذاذ بالنظر إليه والتعاطي معه، والاهتمام بالحفاظ عليه حتى من النسيم العابر، سيكون أعظم بكثير مما لو
ـــــــــــــــ
(1) سورة الصافات، الآيات 102 ـ 107.
(2) سورة البقرة، الآية 124. لم يكن وحيداً. والأنبياء أرق الناس طبعاً، وأرهف حساً وأكثر حناناً وعطفاً..
ومن الواضح: أن هذا الحب العارم، وذلك التعلق الشديد سيكون حافزاً إلى بذل عناية أكبر في تربيته تربية صالحة، ومراقبة كل حركاته وسكناته، وتوجيهها بالاتجاه الصحيح والسليم..
فإذا كان هذا المربي هو أعظم الأنبياء وأفضلهم ـ بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) ـ وكان الطفل هو إسماعيل (عليه السلام) الذي كانت طفولته طفولة نبي، وهي أرقى وأكمل وأنبل وأفضل طفولة.. فإن تجسد معاني النبل والفضل والكمال الفائق فيه، سيزيد من حب إبراهيم (عليه السلام) له، لأن إبراهيم (عليه السلام) هو أفضل من يدرك بعمق وبوعي قيمة تلك الميزات والخصائص، ويعرف آثارها.. وهو أكثر الناس حباً لها، وانجذاباً إليها، وتفاعلاً معها، وتفانياً في سبيلها، وقد نذر نفسه، وكل وجوده وحياته بالدعوة إليها وإيجادها، ونشرها وترسيخها في الناس، ولتكون هي وعيهم، وفكرهم وحياتهم وسلوكهم، وممارستهم، وكل وجودهم.
ثم إن الإنسان يحب ثمرات جهده، ويميل إليها مهما كان حجمها ونوعها..
وخلاصة القول: أن الإنسان العادي يحب تلك الصفات، وينجذب إليها، فكيف بالنبي، وكيف بشيخ الأنبياء، وأفضلهم بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)..
وها هي تتجسد بأجلى وأتم مظاهرها بولده الوحيد الذي جاءه بعد أن طعن أبوه في السن، وكبرذلك الولد أمام عيني أبيه، الشيخ الكبير، فلا غرو في أن تبلغ محبته له أعلى الدرجات، وأقصى الغايات.. عنفوان الطفولة:
يضاف إلى ذلك كله: أن للطفولة حالاتها، ومزاياها التي تتنوع بواعث الانشداد والانجذاب فيها، وذلك من خلال الحركات واللفتات التي يسجلها الطفل في حركته..
فإن الأب سيلتذ بعنفوان الطفولة، ولمحات الوعي، ولمعات الذكاء، ولفتات الجمال. وسيكون أكثر التذاذاً وهو يراقب ويتلمس الميزات والمواصفات الإنسانية، وهي تتنامى في شخصية هذا الطفل العزيز ـ إسماعيل (عليه السلام) ـ بصورة غير عادية وغير مألوفة، لأنها ميزات طفل يعده الله سبحانه لمقام النبوة.
وكان إسماعيل (عليه السلام) يسجل تصرفاته، فتأتي غاية في الدقة، والصحة، وبالغة الانسجام مع مرادات وأهداف أبيه النبي صلوات الله وسلامه عليهما..
وسيجد والده الذي يعرف قيمة هذه الميزات، وبواعث تلك الحركات والتصرفات، التي له تعلق خاص بها، سيجد في نفسه المزيد من التعلق بهذا الطفل، وسيتأكد حبه وإعزازه له..
إن الإنسان له تعلق بولده حتى لو كان طفلاً عادياً، بل حتى لو كان عاقاً له، فكيف إذا كان في أعلى درجات البر به، جامعاً لأسمى المواصفات وأغلاها، وأنبلها وأسناها. إنه سيحافظ على هذا الطفل كأعظم ما يكون الحفاظ.. وسيكون ضنيناً به حريصاً عليه كل الحرص.. وقد قال علي (عليه السلام): بني وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني.,
حالات مؤلمة:
ولنفرض أن هذا الطفل بكى ـ ولو في أيامه الأولى ـ وقبل أن يزيد التعلق به.. فإن والده سيبادر إلى البحث عن سبب بكائه، هل هو العطش، أو الجوع، أو الألم، أو الضجر، أو أي شيء آخر.. فإذا مرض هذا الولد، فإن همه واهتمامه به سيزداد.. وسوف تثور المخاوف في نفسه، وتزدحم البلابل في صدره.
فإذا كان المرض خطيراً، أو إذا فقد بعض أعضائه كعينه أو رجله، أو يده، فكم سيكون هم أبيه وتألمه وأسفه عظيماً لأجله..
فإذا مات، فكم سيكون عليه هذا الحدث صعباً ومؤلماً..
وإذا مات مقتولاً.. فإن الألم يكون أشد، أما أن يذبح كما يذبح الكبش، فاللهفة عليه ستصبح أعظم.. فكيف إذا كان ذلك أمام عينيه.. فإن القضية ستكون أقسى والانفعال أبين..
وقد يتفق أن يكون الأب سبباً في قتل ولده هذا الحبيب عن غير عمد منه، كما لو صدمه بصورة عفوية في سيارة مثلاً، أو في أية وسيلة أخرى، فكم ستكون حسرته عليه، وكم سيظهر من التلهف والأسى والحنين إليه؟!
الامتحان الصعب:
ولنفترض أنه قد تحتم على إنسان مّا أن يقتل ولده ليدفع شره عن نفسه، أو في فورة غضب طاغية، حيث يكون ذلك الولد قد بالغ في العدوان على ذلك الوالد، وفي الإجرام في حقه.. ألا تتوقع أن يختار طريقة المفاجأة والسرعة، وأن ينهي الأمر بطريقة عشوائية، ليتخلص من الحرج، ومن الكابوس الصعب الذي يواجهه، إنه سيفعل ذلك بالتأكيد، بكثير من الارتباك، والعصبية، والانفعال. فكيف تكون الحال لو كان ذلك الولد باراً بأبيه وقد ظهرت فيه أمارات التميز، وتبلورت في شخصيته دلائل النبوغ والتفوق، فإن إقدامه على قتل ولده سيكون أقرب إلى المحال. لا سيما بعد أن عاش معه ردحاً من الزمن، وتلمس ميزاته، وألِف حركاته، وتجلت له كمالاته.. ولن يخبر ولده بالأمر، لأنه سيرى أن ذلك يزيد في ألم ذلك الولد وفي حيرته، وسوف يزيد انتظار ولده للذبح من آلام ذلك الوالد، ومن صعوبة تنفيذ المهمة التي تواجهه..
فكيف إذا كان لا بد له أن يقتله بطريقة الذبح، وبيده، وبسكينه. كما حصل لإبراهيم (عليه السلام).
وقد واجه إبراهيم (عليه السلام) هذا الأمر الإلهي بالذبح ـ نعم.. الذبح لا مجرد الضرب أو الطرد ـ بصبر وأناة، وتصدى لامتثال أمر الله سبحانه بكل رضا وثبات، وعزيمة وإصرار.
ولم نجده أفسح المجال لأي احتمال أو وهم يراود نفسه، فيما يرتبط بجدية هذا الأمر، وأنه إنما جاء عن طريق الرؤيا، ولم يتساءل عن أسبابه، فلعله يقدر على إزالة تلك الأسباب..
من المعلوم: أن الأنبياء هم أكمل البشر في إنسانيتهم، وأصفاهم نفساً، وأشدهم إحساساً. ونفوسهم تزخر بالعواطف النبيلة، ومشاعر الحب الجياشة. وهم في منتهى الرقة على بني الإنسان، فكيف إذا كان هذا الإنسان طفلاً، وكيف إذا كان في مستوى نبي هو إسماعيل (عليه السلام)..
إن هذه الخصوصيات التي بيناها تعطينا القيمة الحقيقية لامتثال الأمر الإلهي لإبراهيم (عليه السلام) بالذبح لولده إسماعيل (عليه السلام) كما أنها تعطي أيضاً قيمة كبرى لإيمان إبراهيم (عليه السلام) الذي أوصله إلى درجة الرضا، بهذا الأمر، والاندفاع إليه، رغم كل هذا الإحساس المرهف، وكل هذه العاطفة الجياشة، التي يغذيها إدراك عميق لقيمة مزايا إسماعيل، ومعرفة حقيقية به (عليه السلام)..
التصعيد ورفع مستوى الابتلاء:
ومما يرفع من مستوى وقيمة ما فعله إبراهيم (عليه السلام)، أن كل هذا الذي لم نستطع أن نصفه إلا بهذا المستوى الباهت والمحدود: قد أضيف إليه أن إبراهيم (عليه السلام)، رغم ذلك كله، لم يله عن مسؤوليته ودوره تجاه ولده الوحيد حتى في هذه اللحظات الحرجة، حيث إنه قد بادر إلى رفع مستوى الابتلاء، إلى أقصى درجاته، فلم يندفع لتنفيذ الأمر على حين غفلة من إسماعيل (عليه السلام).. بل هو قد أخبر ولده بالأمر، وطلب منه أن يرى رأيه.. فإن ذلك يعني:
1ـ إنه (عليه السلام) لم يفرض قراره على ولده، ولم يكرهه على القبول به.. بل هو لم يمارس أي نوع من أنواع الإيحاء، ولو بإظهار الميل إلى هذا الخيار أو ذاك..
2ـ إنه (عليه السلام) قد أراد بذلك أن ينيل ولده أجر الطاعة لله سبحانه في مثل هذا الأمر العظيم، الذي يستهدف حياته بهذه الطريقة الغريبة والصعبة، وهو صبي في مقتبل عمره، ينفر نظراؤه من كل ما يعكر عليهم صفو الحياة، أو يصدّهم عن اهتماماتهم الطفولية، وعن ممارسة ما يبعث في نفوسهم المزيد من المرح والابتهاج.
نعم .. إن إبراهيم (عليه السلام) لا يسعى لتخفيف الآلام عن نفسه، بل هو يسعى لاكتساب المزيد من ثواب الله سبحانه، حين يعرّض نفسه للمزيد من الآلام في سبيل رضا الله سبحانه وتعالى..
3ـ أن يجعل من هذا التكليف وسيلة لتنمية الملكات الإيمانية، وإعطائها المزيد من القوة والعمق في داخل نفس إسماعيل (عليه السلام).
4ـ ثم هو إعلان للبشرية جمعاء أن ذبح ولده لا يمثل عدواناً عليه، وإنما هو طاعة لله، يشتركان معاً فيها عن رضا وعن اختيار..
5ـ وهو أيضاً بيان للأمثولة، والقدوة، والأسوة للناس.. بصورة عملية وفعلية، وعدم الاكتفاء بإصدار الأوامر والنواهي، على سبيل التنظير للآخرين..
6ـ ثم إن ذلك يبين ويظهر دراية، وعقل، وسمو نظر، وعلو مقام إسماعيل (عليه السلام)، وحقيقة ملكاته، التي أوصلته إلى هذا المدى البعيد من المعرفة بالله سبحانه، ومن الرضا والانقياد والطاعة له سبحانه، وهو لما يزل طفلاً، قد بلغ السعي لتوه.. وهو يستقبل الحياة بكل عنفوانها، وهي تبتسم له، وتعرض نفسها عليه بكل مباهجها، وإذ به يزهد بها، ويعرض عنها، لأنه إنما يريدها ويطلبها لله، ولا يريدها لأنها تستحق أن تطلب وتراد..
وذلك يجعلنا نفهم بعمق طهر إسماعيل (عليه السلام) وصفاء نفسه، ومدى استعداده للتضحية في سبيل الله، وصبره على أعظم البلاء في سبيل رضاه جل وعلا..
يَا بُنَيَّ:
وإذا أردنا أن نستنطق كلمات الآيات المباركة نفسها، فإنها تقول: {قَالَ: يَا بُنَيَّ}.
وهي كلمة تنضح بالعاطفة، وتفيض بالحب والحنان ـ يا بني ـ هذه الكلمة الحنونة، تفهم إسماعيل (عليه السلام) أن أباه حين يقدم على هذا الأمر العظيم، فإن ذلك ليس لأنه كان غاضباً عليه، أو منزعجاً منه إلى الحد الذي أخرجه عن حالة التوازن، بل هو بكامل وعيه، وتبصره، وهو راضٍ كل الرضا عن ولده.. ومشفق وحدوب عليه.
وهذا أيضاً يطمئن إسماعيل إلى أنه يستطيع أن يختار ما يشاء، من دون أي إكراه أو قهر، ومن دون أن يشعر بأي حرج من ذلك الاختيار. وربما يكون شعوره بهذا الحنان من أبيه مشجعاً له على اختيار ما ينسجم مع عاطفة أبيه، وحبه ورضاه..
لإسماعيل (عليه السلام) الخيار:
ثم إنه حين قال له: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} قد أعلمه أن الرؤيا مستمرة، ولم تنته، وأنه إنما رأى خصوص عملية الذبح، وهي ترتسم على صفحة الوجود بصورة تدريجية، وهذا يشير إلى أنه لم ير أن الذبح قد اكتمل وانتهى..
نعم.. لقد أعلمه بذلك ثم قدم له فرصة لاختيار ما يروق له، ولم يحرضه على أي من الأمرين، بل هو قد يسّرهما معاً له.. وهوّنهما عليه، بالحديث عن أن الأمر لا يعدو أن يكون رؤيا منام، مما يفسح له المجال أمام اختيار الرفض، إذا أراد اعتبار القضية مجرد رؤيا، قد تكون بسبب حديث النفس بالأمر بالنهار، فيراه في منامه ليلاً.. وذلك يفسح المجال أمامه لكي يحتمل أنها رؤياً غير ملزمة له. وكما أن إبراهيم (عليه السلام) لم يشعره بوجود إلزام في البين، فلم يقل له: إني ملزم بقتلك، ليجد إسماعيل (عليه السلام) نفسه محرجاً أمام والده..
ومن جهة ثانية: إن تكليف الأب بأمر ليس بالضرورة أن يكون ملزماً للابن.. فكيف إذا كان مجرد رؤيا ومنام؟! ومن جهة ثالثة: يلاحظ هنا: أنه (عليه السلام) لم يقل لإسماعيل (عليه السلام): قد أراني الله في المنام ذلك. كما أنه لم يقل له: إن الله أمرني أن أذبحك، بل قال له: أرى في المنام أني أذبحك، فنسب الرؤيا إلى نفسه. وذلك كي لا يحرجه بأية إلماحة إلى وجود قرار إلهي بذلك.. بحيث يكون ذلك سبباً في ميله نحو الخيار الأصعب.
ومن جهة رابعة: فإنه قد صرح له بأنه غير ملزم بقبول أي من الخيارين حيث قال له: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} في إشارة واضحة أيضاً إلى ثقة إبراهيم (عليه السلام) بحسن اختيار ولده. وبصحته وصوابيته.. وذلك حين أعطاه القيمة والدور الحاسم.
وبعد ذلك كله.. فإن ذلك الاختيار التاريخي سوف يبين قيمة إسماعيل (عليه السلام)، ويظهر حقيقة مزاياه..
إسماعيل (عليه السلام)، يلزم أباه بالإقدام:
وقد أفهم الأب ولده بأن الأمر ليس مفروضاً عليه.. ولكن الابن يصر ويدفع بالأمر إلى حد إلزام الأب بالإقدام على ذلك الأمر العظيم. فلم يقل إسماعيل (عليه السلام) لأبيه: هذه رؤيا.. ولا قال له: أنت حر في أن تفعل أو لا تفعل.. كما أنه لم يطلب منه أن يتريث في الأمر، انتظاراً للبداء الإلهي مثلاً..
بل هو قد طلب منه بصورة الحتم والجزم.. فقال: {افْعَلْ}.
ولكن ذلك لا يلغي احتمال أن يكون إسماعيل (عليه السلام) قد قال ذلك لا عن رغبة في حصول الفعل، بل مجاراة لأبيه، وحباً بإرضائه، فأتْبَع ذلك بالإلماح إلى ضرورة، وحتمية، أن يفعل، حين قال له: {مَا تُؤْمَرُ} ولم يقل له: افعل وفق ما رأيت في منامك..، فهو بقوله هذا قد قدم له المبرر بل قدم له الدليل والسبب الذي يحتم عليه الإقدام، وهو وجود أمر إلزامي، لا بد لإبراهيم (عليه السلام) من امتثاله، فألغى بذلك أي احتمال في أن تكون رؤياه غير ملزمة له.
كما أنه لم يقل له: إفعل ما يطلب منك. إذ قد يتخيل أن الطلب قد يكون إلزامياً وقد لا يكون كذلك..
كما أنه لم يقل له: إفعل ما يحبه الله تعالى، لأن الحب أيضاً قد لا يصل إلى درجة الحتم والجزم.
إختيار إسماعيل (عليه السلام) شرط للإلزام:
والأمر المتوجه إلى إبراهيم (عليه السلام) بالذبح، مشروط في بلوغه حد الإلزام بقبول واختيار وموافقة إسماعيل (عليه السلام)، أما لو اختار أن يرفض ذلك، فإن الأمر يسقط عن إبراهيم (عليه السلام) والشاهد على ذلك إرجاعه الأمر إلى إسماعيل (عليه السلام) في قوله: {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}.
أما إسماعيل (عليه السلام) نفسه، فإنه ليس ملزماً باختيار هذا الطرف أو ذاك. واختيار أي منهما لا ينقص من مقامه، ولا يوجب له أي مشكلة. وإن كان يحرمه من مقامات أجل وأسمى..
وعلى هذا الأساس وإذا كان تكليف إبراهيم (عليه السلام) متوقفاً على ما يختاره إسماعيل (عليه السلام).. فلو أن إسماعيل (عليه السلام) أرجع الأمر إلى أبيه، فقال له: إفعل ما بدا لك مثلاً.. فإن بإمكان إبراهيم (عليه السلام) أن يعتبر نفسه نائباً ووكيلاً عن ولده، ويجد نفسه ملزماً باختيار ما يرى أنه من مصلحة إسماعيل (عليه السلام) وهو الحياة, فيختار ذلك له.. ويكون معذوراً في هذا الاختيار، بل يكون ملزماً بهذا الاختيار دون سواه.. لأنه إنما يفعل ذلك من موقع النيابة التي تفرض مراعاة مصلحة المنوب عنه.
وفي جميع الأحوال فإن إسماعيل (عليه السلام) قد ألغى ذلك كله، من خلال كلمة {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى}.
وقد أكد ذلك بالإشارة إلى أنه لا يقول له هذا عن ضيق بهذا الأمر، ولا يجد فيه أية غضاضة، ولا يلمح فيه أية قسوة، بل هو ـ مع ذلك كله ـ يراه الأب الرحيم الرؤوف المحب، الذي يتعامل معه من موقع الأبوة الحانية العطوفة، فقال له:
أولاً: {يَا أَبَتِ..}. وهي كلمة تنضح بالمحبة والولاء، والانقياد، والطاعة والرضا، وبالثقة بأبوته الحكيمة والمدبرة، والحانية، التي تتحمل مسؤولياتها بكل أمانة والتزام..
وهنا تكمن عظمة إسماعيل (عليه السلام)، في اختياره الحكيم، والذي لم تتدخل فيه أي من العوامل غير الإلهية.. مع أن الباب كان مفتوحاً أمامه على مصراعيه، ليبعد هذا الأمر عن نفسه، وإذا به يظهر الإصرار على أبيه بهذا المستوى. لا يختار إلا طريق ذات الشوكة، لنفسه ولأبيه، رغم أن رفض إسماعيل (عليه السلام) لو حصل لأسقط التكليف عن إبراهيم (عليه السلام)..
وعلى كل حال، فقد أكد إسماعيل (عليه السلام) هذا الإصرار، وهو يهون هذا الأمر على أبيه، لكي لا يجد كبير حرج في الإقدام عليه، حين قال له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}..
ولا شك في أن موقف إسماعيل (عليه السلام) هذا سيزيد من تعلق والده به، ومن صعوبة التخلي عنه، فكيف إذا كان هذا الأمر ـ القتل ـ سيتم على يديه، وبصورة مؤلمة لقلبه، وهي القتل بطريقة الذبح، التي هي ممارسة فعلية، وعن التفات، ومع رؤية بصرية لأمر هو بنفسه بالغ الصعوبة على النفس، حتى في حق غير البشر، فكيف إذا كان بحق الإنسان، وبحق الولد، وبحق إسماعيل (عليه السلام) بالذات ومع التفات إسماعيل (عليه السلام)، ومع اختياره ورضاه؟!
حضور الله في القلب:
ولمزيد من التوضيح، نقول: إن الإقدام على أي عمل يحتاج إلى حوافز، ودواع، فمثلاً: لو أن رجلين كانا يقتتلان، فقد يمر من هناك شخص، فيضحك، ولا يهتم لما يجري، لكن يمر شخص آخر، فيبادر إلى حل الإشكال، مع علمه بأنه قد يتعرض للضرب والأذى، ولكنه لا يتراجع، بل هو يواصل ذلك، في استجابة عفوية منه لنداء ضميره ووجدانه..
وكذلك الحال بالنسبة للتكاليف الشرعية الإلهية، فإنك قد تجد لدى بعض الناس رغبة في مخالفتها، لأنهم يسقطون أمام الدوافع الغريزية، أو المصلحية، أو العشائرية، أو الفئوية، أوغيرها..
وذلك مثل التكليف بالصوم، أو ببذل بعض الأموال، فإن حب الراحة وحب المال قد يدعو بعض الناس إلى المخالفة وكالجهاد في سبيل الله ضد العشيرة، أو ضد الأصدقاء والأحبة.. وما ذلك إلا لأن إيمانه بالله كان يقتصر على الاعتراف بوجوده، من خلال الدليل الذي فرض عليه هذا الإيمان والاعتراف، وقد تجده يستدل ويدافع ويثبت لك صحة ما يؤمن به، ولكن هذا الإيمان لا يؤثر في ممارسته العملية، ولا يخضع قلبه له، ولا يحصنه من مخالفة أوامره تعالى..
وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ}(1).
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا}(2).
فلا فرق بين هذا الشخص في ذلك وبين من ينكر وجوده سبحانه من الناحية العملية، فيحتاج لكي يلتزم بالأمر إلى روادع أخرى ـ كالتخويف من العقاب، أو دوافع وحوافز من قبيل الترغيب بمصالح، أو إثارة مشاعر عاطفية، أو طرح شعارات وطنية، أو إثارة عصبيات عنصرية، أو عشائرية، أو ما شابه..
ولكن الأمر بالنسبة لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) لم يكن كذلك، بل كان نفس حضور الله تعالى في قلبيهما هو الداعي لهما إلى ذلك.. ولم يكن ثمة أي إكراه ولا إجبار، بل كان هناك سعي منهما إلى تحقيق رضا الله سبحانه، ولو لمجرد إدراكهما لذلك عن طريق منام يحكي لهما ما يحبه الله.. بل حتى لو لم يكن هناك أمر ولا زجر، فإنهما سيريان نفسيهما أيضاً في موقع المطيع، والملزم بتحقيق ذلك الأمر.
وذلك كله يعطينا: أنه لا بد في الطاعة الحقيقية من إدخال الله سبحانه إلى قلب الإنسان المؤمن، وإلى وجدانه ليتفاعل مع فطرته، ومع كل كيانه..
فطبيعة قتل الإنسان لولده ـ وفقاً للمواصفات والحالات التي ذكرناها تدفع الإنسان إلى رفض هذا الأمر ومقاومته.. ولكن حضور الله سبحانه في قلب إبراهيم (عليه السلام)، وهيمنته على كل ذرات وجوده قد قلب الصورة، ليكون
ـــــــــــــــ
(1) سورة الحديد، الآية 16.
(2) سورة النساء، الآية 136. الله وحده هو المؤثر في كل حركاته وسكناته، من دون انضمام أي داع آخر إليه.. وهذه هي عظمة إبراهيم (عليه السلام) حقاً..
وتلك أيضاً هي عظمة إسماعيل (عليه السلام) الذي آثر الخيار الأصعب رغبة في الحصول على مقام القرب من الله، رغم أن أباه قد جرد له القضية عن أي دافع، حتى دافع الرغبة الشخصية، فضلاً عن دافع الخوف والرهبة والمراقبة لمقام الألوهية، فلم يتحدث له عن الله سبحانه، بل لقد أبعد عن مخيلته حتى صورة الأمر والزجر، الذي ربما يوجد درجة من الإحساس بالإلزام، واكتفى بقوله: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} فنسب الرؤية لنفسه، فلم يقل أُرِيت في المنام. لكي لا يذكره بما يحرجه، ولو في مستوى إرجاع الضمير، الذي يكون لفظ الجلالة أحد محتملاته، فضلاً عن أن يقول له: لقد أراني الله.. كل ذلك لكي لا يجد إسماعيل (عليه السلام) نفسه أمام أي إلزام يدعوه إلى الاستسلام، مهما كان نوعه، ومن أي جهة كان مصدره.
وهكذا يتضح أيضاً: أنه لم يكن دافع إسماعيل (عليه السلام) إلا قناعاته الفكرية، ولم تكن هذه القناعات بحاجة إلى تعزيز موقعها بحوافز أخرى أبداً..
سَتَجِدُنِي:
واللافت للنظر هنا: أن إسماعيل (عليه السلام) لم يقل لأبيه: سأصبر، بل قال له: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
فاختار كلمة {تَجِدُنِي} لأنه لم يرد أن يقدم لأبيه وعداًً بالصبر، لأن الوعد قد يوحي له بأن ما يعد به غير حاصل بالفعل.. وقد تمنع الموانع من حصوله في المستقبل.. أو قد يحصل البداء فيما يرتبط بالوفاء به، لأكثر من سبب. بل أخبر أباه بأن الصبر داخل في كينونته، وفي حقيقة وجوده، وما عليه إلا أن يتلمسه وأن يثيره فيه وأن يستفيد منه، فليس هو إذن من الأمور العارضة التي أثارها الانفعال أو أي عامل آخر. وسوف تزول بزوال ذلك العامل..
وذلك من شأنه أن يسهم في تشجيع أبيه على الإقدام على هذا الأمر، ويزيد من الترغيب به، ويبعد شبح التردد فيه..
إِنْ شَاء اللهُ:
ثم زاد إسماعيل (عليه السلام) في التأكيد على هذا الجانب حين بالغ في طمأنة والده إلى أنه لا يعتمد في صبره هذا على جهده البشري. بل هو فعل إلهي، ومرتبط بمشيئته تعالى.. فالله هو المتكفل إذن بهذا الصبر، وباستمراريته وجدواه. وهذا من شأنه أن يوجد حوافز لدى أبيه تدعوه لاتخاذ قراره بالتنفيذ، ويبادر إليه برضا وطمأنينة وسلام، ولذلك قال له: {إِنْ شَاء اللهُ}.
وهكذا.. يتابع إسماعيل (عليه السلام) محاولته إقناع أبيه بالإقدام على هذا الأمر، فيطمئنه إلى أن الله سبحانه سيكون معه، حين يجعله صابراً على هذا الأمر، وإذا كان الله هو الذي يمده بالصبر، فليس على الوالد أن يتوقف كثيراً أمام حسابات حجم الآلام التي سوف يواجهها ولده..
مِنَ الصَّابِرِينَ:
وتأتي كلمة {مِنَ الصَّابِرِينَ} لتبين لنا كيف أن إسماعيل (عليه السلام) يزيد في تهوين الأمر على أبيه، حين يلمح له إلى أن أمثال هذه الأعمال الشاقة قد تعرّض لها كثيرون، وقد صبروا عليها.. فلم لا يكون إسماعيل (عليه السلام) واحداً من هؤلاء الصابرين.. إذن، فليس هذا الأمر فوق طاقة البشر، ليخشى منه أبداً، أو ليستعظمه، ويستفظعه..
وقد أظهر إسماعيل (عليه السلام) في كلامه هذا أنه لا يرى نفسه أهلاً لأن ينسب هذا الإنجاز لنفسه، بل لعله لا يرى ذلك إنجازاً مميزاً يحق له أن يتباهى به، كما نراه من الآخرين. بل هو تكليف من مالك الأمر والنهي، لا بد له أن يطيعه، وهو مبادرة إلى إنجاز ما يحبه الله سبحانه، حتى لو لم تكن هناك صورة عينية لهذا الأمر، وذلك كما لو كان هناك مانع يمنع من تسجيله وإنشائه، وقد اطلعنا على إرادة المولى له، ورغبته وترجيحه لإيجاده ولو عن طريق الرؤيا الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء..
وعلى كل حال، فإن على العبد أن يحقق مراد مولاه.. وذلك بمقتضى عبوديته ومملوكيته له.. وليس له أن يتعلل أو أن يترقب مكافأة منه.. ما دام أن كل شيء يعود إلى ذلك المولى ومصدره منه.. ولذلك لم ينسب إسماعيل (عليه السلام) إلى نفسه أية بطولة، فلم يقل: ستجدني صابراً، بل نسب صبره إلى الله سبحانه، فقال: {إِنْ شَاء اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} فإن كان ثمة من صبر فهو من الله تعالى تبعاً لمشيئته سبحانه..
كما أنه لم يقدم نفسه على أنه قد جاء بما لم يأت به غيره.. بل قدم نفسه على أنه واحد من كثيرين.. قد قاموا بمثل هذه الأمور العظيمة، وصبروا عليها..
واضح: أن هذا الوعي العظيم، وهذه الروح الطاهرة الفانية في الله، ستجعل أباه (عليه السلام) أعمق إدراكاً لمزايا ولده إسماعيل (عليه السلام)، وستجعله أكثر تعلقاً به، وسيزيد ذلك من صعوبة القيام بالأمر الذي هو بصدد الإقدام عليه.. إنه إبراهيم:
وكل هاتيك المؤثرات لا بد أن تشد الإنسان إلى الوراء، وتمنعه من تنفيذ المهمة، لولا أن الذي يتصدى لهذا الأمر هو إبراهيم (عليه السلام).. شيخ الأنبياء، وأفضلهم، وأكرمهم عند الله بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله).. إنه إبراهيم (عليه السلام) الذي لم يكن ليستجيب لهيجان العاطفة، وكوامن الحب والمشاعر، ودواعي الإعجاب التي تزيد من صعوبة الأمر عليه، والتي أججها إسماعيل (عليه السلام) وهو طفل صغير بموقفه الإيماني الرائع، ويقينه الراسخ، ودرجة وعيه وخلوصه..
إنه إبراهيم (عليه السلام) الذي كان يرى الله، والله فقط.. فما كان من هذا الأب الرحيم إلا أن باشر مهمته، واندفع في الحدث إلى الذروة، فجذب ولده، وألقاه على الأرض، وباشر تنفيذ الأمر الإلهي برضا وثبات.. {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}(1) وتجلى مقام إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) في الإسلام والاستسلام لله سبحانه، الذي خلده الله تعالى له مثلاً عملياً حياً لكل جيل، وفي كل عصر، يعلمهم أن القيادة ليست مجرد أوامر ونواهٍ، تصدَّرُ للآخرين وليست مجرد شعارات وانتفاخات، واستعراضات إعلامية، من قبل من يستولي على مقاليد الأمور بالمال أو بالجاه أو بالقوة..
بل القيادة والإمامة هي اختيار من الله لمن بلغ هذا المستوى من الرضا والتسليم والاستسلام لله سبحانه. ومن هو على أتم الاستعداد للتضحية بكل غال ونفيس، حتى بالنفس والولد في طاعة الله سبحانه، حتى لو كان الولد هو إسماعيل (عليه السلام) في ميزاته وفي خصائصه.
ـــــــــــــــ
(1) سورة الصافات، الآية 103. فَلَمَّا أَسْلَمَا:
وهذا بالذات هو ما يفسر لنا سبب التفريع بالفاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} حيث إن هذا الامتحان الصعب هو الذي جسّد إسلامهما واستسلامهما على صفحة الواقع، وأخرجه من مجرد القول والشعار ليكون هو الخلق، وهو الممارسة وهو الموقف والسلوك..
نتائج وآثار هذا البلاء:
وهذا النوع من البلاء، الذي يواجه فيه الإنسان المسؤوليات الجسام، ويندفع إلى امتثال الأوامر الإلهية مهما كانت صعبة وشاقة، بكل طمأنينة ورضا هو الذي يزيد في إيمان الإنسان، وفي درجة قربه من الله، ويؤهله لنيل منازل الكرامة.. ثم هو يزيد في بصيرته، ليكون أكثر وعياً وفهماً، ويصير سميعاً بصيراً، كما قال تعالى: {نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}(1).
ولأجل ذلك جاءه النداء الإلهي:
{وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ}(2).
الأهلية لمقام الإمامة العظمى:
نعم إنه البلاء الذي يظهر الملكات الكامنة في داخل شخصية إبراهيم
ـــــــــــــــ
(1) سورة هل أتى، الآية 5.
(2) سورة الصافات، الآيتان 104 و105. وإسماعيل (عليهما السلام)، ويؤكد استحقاق إبراهيم (عليه السلام) لمقام الإمامة العظمى، حيث تحولت هذه الملكات والمزايا من القوة إلى الفعل.. ونجح في الامتحان الإلهي، وحقق معجزات كبرى في مواجهة البلاء الإلهي، وتحمل مسؤوليات الإيمان به، والدعوة إليه.
وكان تعرض إبراهيم (عليه السلام) لهذه البلاءات العظمى يهدف إلى تزكية نفسه، وإعداده لذلك المقام العظيم، فإن التكليف هو من النعم الإلهية، وفيه دلالة على أن من اختير له هو أهل للكرامة الإلهية. كما أن الابتلاء إحسان يجعل من الإنسان موجوداً مؤثراً وفاعلاً في الحياة، خصوصاً إذا كان هذا الابتلاء يجعل الإنسان مرهف السمع، حديد البصر، في حين أن أكثر الناس هم كالأنعام بل هم أضل..
وكان الأمر بذبح ولده إسماعيل (عليه السلام).. هو الذي أظهر لكل المخلوقات والكائنات، العلوية منها والسفلية حقيقة إبراهيم (عليه السلام) ومقامه: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ} إنه هو الذروة في البلاءات التي تعرض لها، كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}(1) فالابتلاء ليس بالأمراض والمصائب الجسدية، بل هو بتحميله المسؤوليات الجسام، وبتهيئة الفرصة لتقديم التضحيات الكبرى التي تزيده إيماناً وطهراً وصفاء، وتؤهله لنيل مقامات القرب والزلفى..
وقد كان ذبح إسماعيل هو الكلمة التي جاء بها إبراهيم تامة وافية، ومطابقة لواقعه وهي الأكثر تعبيراً وصراحة وأدق وأوضح دلالة، على المؤهلات الواقعية
ـــــــــــــــ
(1) سورة البقرة، الآية124. الكامنة في شخصية إبراهيم (عليه السلام) والتي استحق بها هذا المقام، مقام الإمامة العظمى للناس.. ولكنها لا تصل إلى مقام الإمامة المتصلة بالنبوة الخاتمة، فإن عظمة مقام هذه، منسجم مع مقام هذا النوع من النبوة الذي هو الأكمل والأتم، والأعظم.
وفديناه بذبح عظيم:
ونيل إبراهيم (عليه السلام) لمقام الإمامة، هو المكافأة له على تحمله لهذا البلاء العظيم. ثم كانت مكافأة أخرى له ولولده إسماعيل (عليه السلام) أيضاً، الذي شكر الله له صبره، ووعيه، وإيمانه وطاعته، وفناءه في الله، وفداه الله بذبح عظيم.. {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
نعم، ذبح عظيم يستمر في الأمم إلى يوم القيامة كشعيرة إلهية كبرى رسمها الله سبحانه على كل البشر، فأوجب الأضحية على كل من يحج إلى بيت الله الذي رفع إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) قواعده، وشيدا أركانه.. وأعليا شأنه..
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله الطاهرين.
عيثا الجبل (عيثا الزط سابقاً)
جعفر مرتضى العاملي
3 شهر رمضان المبارك 1423 للهجرة.
|