بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
يقولون: ".. عندما دنا اجل معاوية، اوصى ولده يزيد بأنه يخالف عليه أربعة، وعد منهم مروان بن الحكم.
وقال له: إذا أنا مت، فسيقولون لك تقدم، فصل على أبيك.
فقل ما كنت لأعصي لأبي فيما أوصاني به، وقد قال لي:
إنه لا يصلي علي إلا شيخ بني أمية، وهو عمي مروان بن الحكم فقدمه، وتقدم إلى ثقات موالينا، وهم يحملون سلاحهم تحت أثوابهم.
فإذا تقدم للصلاة، فكبر أربع تكبيرات، فاشتغل بدعاء الخامسة فقبل أن يسلم، فليقتلوه، فإنك تراح منه، وهو أعظمهم عليك.
فنمى الخبر إلى مروان فأسرها في نفسه. وتوفي معاوية. وحمل سريره للصلاة عليه فعندما قدموا مرواناً، فكبر أربعاً، وخرج عن الصلاة قبل دعاء الخامسة، واشتغل الناس إلى أن كبروا الخامسة "[1].
هكذا... يقولون..
أما نحن.. فنعتقد أن ذلك من الأساطير التي لا أساس لها، ونستند في اعتقادنا هذا إلى أمور أربعة:
الأول: إن هذه القضية لو صحت لكان يجب ان يكون موقف مروان من يزيد، وموقف يزيد من مروان في مدة حكم يزيد مختلفاً تماماً عما كان عليه... مع أننا نرى أنهما كانا على غاية الوفق، والتفاهم والانسجام... وهكذا يقال بالنسبة لمروان ومعاوية بن يزيد بعد ذلك !
الثاني: إن جمهور المؤرخين يرون أن الذي صلى على معاوية هو الضحاك بن قيس لأن يزيد كان غائباً بحواريين حين وفاة والده[2].
وقال الشافعي ومحمد بن إسحاق: إن الذي صلى عليه هو ابنه يزيد وإنه دخل قبل موت أبيه دمشق، فاوصى معاوية إليه. ولكن الجمهور على أن يزيد لم يدخل دمشق إلا بعد موت أبيه، وأنه صلى على قبره بالناس[3].
الثالث: إن مروان بن الحكم كان حين وفاة معاوية بالمدينة، فجاء إلى الوليد بن عتبة نعي معاوية، وطلب البيعة ليزيد من الناس عامة، ومن الحسين خاصة فأحضر الوليد مروان فأطلعه على الأمر واستشاره، ثم استحضر الحسين وطلب منه ذلك فلم يقبل منه، فأمره مروان بحبسه حتى يبايع أو يقتله، وغضب الحسين لمشورة مروان، بحبسه إلى أن يبايع أو يقتل وجرى بينهما ما جرى مما هو معروف، ومشهور، وحيث إذ ذلك مما اتفق عليه المؤرخون، ولم نجد أحداً منهم يخالف فيه على الإطلاق، فإننا لا نجد حاجة لذكر مصادره..
وهكذا.. وإذا كان مروان حين وفاة معاوية بالمدينة، فكيف يكون قد صلى عليه وهو في الشام..
أما الرابع: فعدا عن أن ناقل الرواية هو (الحسين بن حمدان) وهو من الغلاة الذين لا يوثق بروايتهم.
فإن الرواية تنص على أن مروان قد كبر على معاوية خمساً ومن الواضح:
أن عمر كان قد أرجع الناس إلى أربع تكبيرات ولم يكن معاوية والأمويون ليخالفوا سنة عمر.. ولهذا البحث مجال آخر..
وأما عن سر وضع واختلاق هذه الأسطورة، فلعله لا يكاد يخفى على من أمعن النظر في تاريخ الوضع والاختلاق، والدس في التاريخ الإسلامي..
فمروان.. قد أصبح خليفة للمسلمين.. وله تاريخ حافل بالمواقف المخزية تجاه علي عليه السلام، وأبنائه من بعده.. ومنها موقفه المشار إليه آنفاً، والذي يتلخص بأنه:
أشار على الوليد بن عتبة بـ "قتل الحسين(ع)" وإذا كان هذا مما لا يتاح إليه أي مسلم يؤمن بالله، واليوم الآخر، فلابد من محاولة التمويه على الناس، وتكذيب هذه الحقيقة، ولا أقل من التشكيك فيها.. وباختراعهم لهذه الأسطورة يكونون قد أبعدوا مروان عن المدينة، وأوصلوه إلى الشام، حين وفاة معاوية.. حتى لقد صلى هو عليه، وتصرف تصرفاً أفشل به هذه المؤامرة الخيالية.
ولهذه القضية المفتعلة قضية أخرى نظيرة لها في الاختراع، والافتعال وملخصها، أنه عندما وصل الوفد الذي معه رأس الحسين إلى الشام، دخلوا مسجد دمشق "فقال لهم مروان بن الحكم كيف صنعتم؟ قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلاً، فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرؤوس والسبايا، فوثب مروان وانصرف الخ"[4].
مع أن مروان لم يكن حينئذ بالشام، وإنما كان بالمدينة، وإنما الهدف من إبعاده من المدينة إلى الشام هو تبرئته من موقفه المشين من رأس الحسين عليه السلام، عندما أرسل إلى مدينة الرسول.. حيث أنشد الشعر الدال على الشماتة، ورمى بالراس نحو قبر النبي، وقال: يا محمد، يوم بيوم بدر.. وقال: والله، لكأني أنظر إلى أيام عثمان إلى آخر ما قدمنا تفصيله في بحث " علي بن الحسين، وأموال مروان ".
وإذا كان مروان حينئذ بالمدينة، حسبما بيناه في البحث المشار إليه آنفاً.. فكيف وصل إلى الشام، وجرى بينه وبين الوفد الذي معه رأس الحسين ما جرى؟.
إنه حتى وإن لم يكن حينئذ بالشام.. لابد وأن يؤتى به إليها – من قبل الغيارى على الخلفاء – من أجل طمس حقيقة موقفه من الحسين، وإشارته على الوليد بقتله، وأيضاً طمس حقيقة موقفه من رأسه الشريف حين أرسل إلى المدينة... ولكن هذه الأكاذيب كلها ما راجت على الناس، ولا اطمأنوا إليها، ولا أعاروها أذناً صاغية، لأن الحقيقة كانت أقوى من كل زيف، ودجل، وخداع، والحق يعلو ولا يعلى عليه..
[1] سفينة البحار ج2 ص536 عن الهداية للحسين بن حمدان.
[2] راجع: البداية والنهاية و\ج8 ص143 وليراجع أيضاً تاريخ اليعقوبي ج2 ص239 وأسد الغابة ج4 ص387 ومآثر الأنافة ج1 ص111.
[3] البداية والنهاية ج8 ص143 و 144 ومآثر الأنافة ج1 ص111.
[4] البداية والنهاية ج8 ص196.
|