• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : المؤلفات .
              • القسم الفرعي : المقالات والأبحاث .
                    • الموضوع : العباسيون في مواجهة المدّ الفكري .

العباسيون في مواجهة المدّ الفكري

نظرة عامة..

عاصر الإمام الكاظم عليه السلام عدداً من الخلفاء في مطلع دولة العباسيين، وهم: أبو جعفر المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد.

وقد امتدت فترة تصديه لشؤون الإمامة، بعد وفاة أبيه الإمام الصادق عليه السلام سنة 148ﻫ، حتى سنة 183ﻫ وقيل: سنة 186ﻫ.

المعاناة الطويلة:

وفي حين كانت حياته عليه الصلاة والسلام زاخرة بالعطاء، حافلة بالجنى.. فإنها كانت أيضاً محفوفة بالمكاره والشدائد، مشحونة بالرزايا والمآسي. حتى لقد زُجَّ به (ع) – لسنوات طويلة – في غياهب السجون، في أكثر من مرة ومورد. هذا إلى تحديات وبلايا أخرى، واجهها عليه الصلاة والسلام بصبر وثبات. حتى لقب بـ "الصابر" و "الكاظم"، وهو أشهر ألقابه.

الطبيعة المجرمة:

وقد لا يكون من المجازفة تفسير هذه الظاهرة فيما نجده في أولئك الحكام من قسوة وعنف تنضح بها الروح المجرمة، لشخصية ذات طبيعة شرسة، متشبعة بالحقد، مشحونة بالعقد النفسية، التي ترتسم معالمها البشعة على تصرفات الخليفة، أو تصرفات زبانيته، وأعوانه.

وقد ذكرنا جانباً مما يشير إلى هذه الجرائم، والمواقف، والأعمال البشعة، والقذرة في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا عليه السلام، فليراجعه من أراد.

وليس لنا على هذا التفسير إلا تحفظ واحد، وهو: ان ذلك ليس هو كل السبب، وأن كان له تأثير على درجة من القوة في ذلك.

المرحلة.. وممارسات السلطة:

كما أننا يجب أن لا نستبعد هنا طبيعة المرحلة، وخصائصها، من حيث ما يواجهه الحكم، ويراه ماثلاً للعيان، من عمقٍ وقوةٍ في المجاذبات السياسية، التي تتجذر على أسس عقائدية، أو ما يؤول إليها من مثل، وقيم، وشعارات، تشكل رافداً قوياً للاندفاع نحو خوض صراعٍ قاسٍ ومرير، ضد قوى السلطة ورموزها، وزعزعة هيكليتها العامة، وتلاشي قوتها على المدى الطويل.

وتفترض السلطة – والحالة هذه – أن أهل البيت، والأئمة عليهم السلام بالذات، معنيون مباشرة، بل ومسؤولون إلى درجة كبيرة عن ذلك كله، وتجد في ذلك مبرراً لممارسة شتى أنواع الضغوط عليهم، وملاحقتهم، وقهرهم، وإيصال ما تقدر عليه من الأذى إليهم وتحين الفرص وخلق المبررات لتصفية الصفوة الأخيار من شيعتهم، وكل من يتصل، أو يلوذ بهم، من قريب، أو من بعيد.

ولئن حاول المنصور الدوانيقي، رجل الدولة القوي: أن يرسخ دعائم حكم العباسيين بقوة طاغية، وجبروت بالغ، فمارس ضد من يعتبرهم أقوى خصوم الحكم، وهم آل علي، وشيعتهم، مختلف أنواع الاضطهاد، والقتل، والعسف، والتشريد، حتى ليقال: إنه إنما سمى نفسه (المنصور)، حين رأى أنه قد انتصر عليهم[1]، فإن سياسة من بعده لم تكن بأفضل من ذلك، ولا أعدل، حتى لقد وصف الخوارزمي الرشيد بأنه: قد حصد شجرة النبوة، واقتلع غرس الإمامة.

وقد سجل لنا التاريخ الإسلامي الكثير الكثير مما يشير إلى ما ارتكبه المنصور والمهدي، والهادي ثم الرشيد، ولسنا هنا في صدد تتبع ذلك[2].

الحكام.. في مواجهة الطليعة المثقفة:

ولقد أسهمت مدرسة الإمامين: الباقر، والصادق عليهما السلام بنشر المعارف الإسلامية على النطاق الأوسع والأشمل، ثم الأعمق والأدق. واستطاعت أن تبني في فكر ووجدان الكثيرين القواعد، والركائز والمنطلقات الأساسية، التي يفترض فيها أن تحكم الفكر، وتوجهه، وتهيمن على مساره في خط الوعي، وتمنحه المناعة الكافية ضد أي انحراف، أو محاولة استغلال، واستثمار غير مسؤول، من أي فئة، وأي قبيل كان.

ورغم أن السلطة.. ومعها كل المناوئين للخط الفكري والعقائدي للأئمة عليهم السلام، قد بذلوا كل ما في وسعهم لضرب هذا الاتجاه، وتشويش هذا الخط، وتعمية السبل إليه.

رغم ذلك، فإنها لم تستطع أن تحدث أي خلل يذكر، في البنية الفكرية لهذا الخط، ولا في أي من ركائزه ومنطلقاته. بل كان يزداد قوة وصلابة وتألقاً ووضوحاً، كما وتزداد منطلقاته، وركائزه قوة، وعمقاً، ورسوخاً في وعي تلك الطليعة الرائدة، التي تخرجت من مدرسة الإمامة، ونهلت من معين معارفها.

وجاء الإمام الكاظم عليه السلام ليرعى ذلك الغرس الطيب، ويحفظ فيه معانيه وأهدافه الإلهية، ويثير روافده ويفجرها، حياة في الفكر، ووضوحاً في الرؤية، وصفاء في الوعي، وطهراً ونبلاً في الوجدان.

المرونة.. والواقعية:

وإذا كانت الأطروحة الإلهية تتبنى التعامل مع الواقع، من خلال ما يوفره من فرص، وإمكانات تلائمه وتنسجم معه. فإن من الطبيعي أن تشعر تلك الطليعة الواعية بأن بإمكانها: أن تستفيد – ولو بصورة محدودة، ومنسجمة مع واقعيتها وهدفيتها – من بعض الانفراجات، التي قد يفرضها واقع سياسي، أو اجتماعي معين كذلك من علاقات شخصية ببعض مراكز النفوذ أحياناً وذلك في الحدود التي تحفظ الأطروحة، وتجنبها التلوث ببعض الأوبئة، أو معانات بعض السلبيات.

وقد رأينا علي بن يقطين رحمه الله يقبل بأن يصبح جزءاً من النظام الحاكم لهذه الغاية، كما واستفاد هشام بن الحكم رضوان الله تعالى عليه من علاقاته بيحيى بن خالد البرمكي، حيث يقال إنه كان منقطعاً إليه، فكان القيم بمجالس كلامه ونظره[3].

وثمة موارد وشواهد أخرى، لا مجال لتتبعها في عجالة كهذه.

وقد أفاد هذا الأسلوب ونظائره ولو بصورة جزئية ومحدودة في دفع غوائل الملاحقة، وتجرع مرارة الاضطهاد، والحفاظ على هذه الثلة من الانجرار إلى صدام مدمر لا يبقى ولا يذر، تسعى السلطة لتوفير الظروف وخلق المبررات له.

إلى جانب ذلك.. فقد عرفت تلك الثلة أن بالإمكان الاستفادة من الحالة العامة، التي كانت تسير باتجاه التوسع المستمر، والنمو المطرد في حركة طرح الأفكار، وتداولها. الأمر الذي يختزن في داخله طموحات، وتطلعات واسعة، لدى الفئات المختلفة، فرضت نفسها، كأمر واقع لم يجد الحكام بداً من التعامل معه، والسعي لاحتوائه وضبطه، ليصار إلى تغيير حركة الاتجاه له ليصب في مصلحة الحكم، والهيئة الحاكمة، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

فكان على تلك الصفوة من تلامذة مدرسة الصادقين، أمام هذا الواقع وذاك: أن تنطلق بما تملكه من فكر حي وأصيل، لتثير حركة الفكر لدى الآخرين، وتتفاعل معها، وترصدها من موقع الوعي، والأصالة والواقعية، والعمق، بروحية صافية، وقلب مفتوح، من موقع المسؤولية والمحبة، لا من موقع الأنانية والتحدي، بعيداً عن سلبيات العصبيات المقيتة، والطموحات اللامشروعة، ولا تعاني من أي عقد تسيء إلى سمو الهدف، أو تشنجات تصد عن الحق. فإن ذلك هو الداء الدويّ الذي يعاني منه الآخرون، ممن حاولوا دخول حلبة الصراع الفكري والعقيدي، وإن كان على درجات متفاوتة في القوة والضعف، والظهور والخفاء.

الصراع المصيري:

وإذا كانت طبيعة المرحلة قد فرضت أن يجد الكثيرون من دعاة الفرق والمذاهب وروادها – أنفسهم – يخوضون صراعاً عقيدياً ومصيرياً، صراع وجود، أو لا وجود في مقابل سائر الفرق، التي كانت تعمل على تأكيد خصائصها المذهبية، وأن تجد لنفسها السبيل لطرح فكرها على أسس علمية، من أجل ان تثبت جدارتها وقوتها، قبل أن يتجاوزها المد، ويلقي بها على قارعة الطريق، حيث كانت المرحلة هي مرحلة تكون تلك الفرق، وتميزها.

إذا كانت تلك هي طبيعة المرحلة. فإن الأمر الذي لم يكن يسعد الحكام العباسيين أن يجدوا أنفسهم أمامه، هو أنهم أصبحوا يتلمسون فكر، وطروحات أهل البيت عليهم السلام – بدرجات متفاوتة – في مختلف المواقع والمواضع، وعلى جميع الأصعدة، ولدى جميع الفئات والطبقات.

فكان أن استنفروا لمواجهة هذا الفكر، ورصده، وملاحقته، ومحاربته، هو وكل رموزه ودعاته – استنفروا – كل طاقاتهم وإمكاناتهم وعملوا على خنقه واستئصاله بكل ما أوتوا من قوة وحول.

مقومات البقاء:

وكان من الواضح جداً: أن أي حركة، أو دعوة سياسية لابدّ لها من أن تقدم أطروحة فكرية متكاملة سواء على مستوى العقيدة، أو في مجال التشريع، ذات أصالة وعمق في ضمير ووجدان الأمة، ترفدها العاطفة، ويمدها ويغذوها الفكر، ويصونها الضمير والوجدان، من أجل أن تصبح على صعيد الواقع باعث حركة، وعفوية موقف، ويقظة ضمير.

وإلا.. فإنها لن تستطيع الثبات في وجه الأعاصير، ولا التماسك امام الزلازل. بل سوف يكون مصيرها الانهيار والتلاشي، وتتحول إلى ركام من الذكريات، التي تحلو تارة، فتثير أريحيةً وطرباً، وتقسوا أخرى، فتثير أسفاً، أو عجباً !!

حركات الزيدية بين الواقع والشعار:

ولا أدل على ما تقدم من المصير الذي انتهت إليه حركات الزيدية في تلك المرحلة من الزمن.

فإن هذه الحركات التي استفادت من التعاطف الشعبي الهائل مع اهل البيت عليهم السلام وقضاياهم، وما تعرضوا له من مآسٍ ومحن. واستفادت أيضاً من المعاناة الطويلة والمريرة للناس مع حكامهم الجبارين، فرفعت شعارات رأي فيها هؤلاء المغلوبون على أمرهم تحقيقاً لآمالهم، وتخلصاً من أغلالهم.

إن هذه الحركات قد استطاعت بسبب ذلك، وسواه مما لا مجال لبحثه الآن ؛ أن تجد لها تأييداً شعبياً واسعاً جداً، حتى لقد بويع لأحد زعمائها في زمن المنصور – هو محمد بن عبد الله بن الحسن – في أغلب الأقطار والأمصار. ثم استطاعت أن تمسك بكثير من المراكز الرئيسية والحساسة في الدولة العباسية، وفرضت هيمنتها على مصادر القوة في الدولة العباسية: سياسياً، وإعلامياً، وثقافياً، وعاطفياً.

ولكن كل ذلك لم يُجِد نفعاً، لأنها إنما كانت حركات سياسية بالدرجة الأولى، ولم تتجاوز في طروحاتها مستوى الإثارات العاطفية، وطرح الشعارات، ولم تقدم للناس اطروحة فكرية متكاملة، على مستوى العقيدة والتشريع، ولم تستطع أن تمزج الفكر بالعاطفة، ولا الوجدان بالفكر، لينتج موقفاً رسالياً، تخاض من أجله اللجج، وتبذل دونه المهج.

ومن هنا.. فإنها لم تتمكن من الصمود أمام الهزات الحقيقية، التي تعرضت لها، واستطاع الخليفة أن يتخلص من رموزها، ويقضي على حركاتها، بسهولة أحياناً وبشيء من الصعوبة أحياناً أخرى.

وكانت النتيجة هي: أن تلك الحركات بمدة وجيزة قد أصبحت في خبر كان، وأثراً بعد عين، حتى كأن شيئاً لم يحدث.

وتحولت تلك القوة الهائلة: المادية، والبشرية، التي كانت لها لتصبح لخصومها، وعاد السيف الذي كان في يدها ليسلّ من جديد لتجذّ به نفس تلك اليد التي كانت تصول به، ولتقطع به نفس الرؤوس التي كان يدافع عنها.

الحكام.. ورصد المد الفكري:

وقد رأينا الحكام العباسيين في تلك الفترة، لا يكتفون في تقييمهم للحركات السياسية، التي تواجههم – ومنها حركات الزيدية – بالفهم الساذج والظاهري لها، وبما لها من طابعٍ سياسي، يمكن أن يجعلها تصب في مصلحة هذا الفريق السياسي، أو ذاك.

وإنما هم يتلمسون – بطريقتهم الخاصة – ما لها من خلفيات فكرية، وجذور عقيدية أدل وأعمق، وتنذر بخطر أعظم وأدهى، فيما لو قُدِّر لها أن تصل إلى درجة من النضج، والتبلور والوضوح في وعي الناس، ولتتحول – من ثم – إلى حالةٍ وجدانية راسخة، تغذيها روافد شعورية وعاطفية ثرة وقوية، فكان الخلفاء، يلاحقون ذلك كله ويرصدون رموزه وروافده، ويحاولون الإمساك بكل الخيوط التي تضع أيديهم على مصادره ومظاهره، وفي هذا الاتجاه نجد هشام بن الحكم يقول:

"لما كان أيام المهدي، شدَّد على أصحاب الأهواء، وكتب له ابن المفضل صنوف الفرق، صنفاً صنفاً، ثم قرأ الكتاب على الناس.

قال يونس: قد سمعت هذا الكتاب يقرأ على الناس على باب الذهب بالمدينة، ومرة أخرى بمدينة الوضاح.

فقال: أن ابن المفضل صنف لهم صنوف الفرق، فرقة فرقة، حتى قال في كتابه:

وفرقة منهم يقال لهم: الزراية.

وفرقة منهم يقال لهم: العمارية. أصحاب عمار الساباطي.

وفرقة يقال لهم: اليعفورية.

ومنهم فرقة: اصحاب سليمان الأقطع.

وفرقة يقال لها: الجواليقية.

قال يونس: ولم يذكر يومئذٍ هشام بن الحكم، ولا أصحابه ؛ فزعم هشام ليونس:

إن أبا الحسن بعث إليه، فقال له:

كف هذه الأيام عن الكلام، فإن الأمر شديد.

قال هشام: فكففت عن الكلام حتى مات المهدي، وسكن الأمر"[4].

وقد كان ليحيى بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة يوم الأحد، فيتناظرون في أديانهم، ويحتج بعضهم على بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيى بن خالد، يا عباسي، ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟

فقال: يا أمير المؤمنين، ما شيء مما رفعني به أمير المؤمنين، وبلغ من الكرامة والرفعة أحسن موقعاً عندي من هذا المجلس، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم على بعض، ويعرف المحق منهم، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.

قال له الرشيد: فأنا أحب أن أحضر هذا المجلس، واسمع كلامهم من غير أن يعلموا بحضوري، فيحتشمون ولا يظهرون مذاهبهم.

قال: ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء.

قال: فضع يدك على رأسي، ولا تعلمهم بحضوري.

ففعل.

وبلغ الخبر المعتزلة، فتشاوروا فيما بينهم، وعزموا ألاّ يكلموا هشاماً إلا في الإمامة، لعلمهم بمذهب الرشيد، وإنكاره على من قال بالإمامة.

ثم تذكر الرواية وقائع الجلسة المثيرة، التي سمعها الرشيد بحذافيرها، هو وجعفر بن يحيى.

فعض الرشيد على شفته، وقال: مثل هذا حي، ويبقى لي ملكي ساعة واحدة، فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مئة ألف سيف.

وأحسّ هشام بالأمر ؛ فتوارى، فبعث الرشيد إلى إخوانه، وأصحابه، فأخذ الخلق به.

ثم اعتل هشام، ومات، فلما علم هارون بموته خلى عمن كان أخذ به[5].

وحسب نص آخر: أن يحيى بن خالد، وشى بهشام بن الحكم عند هارون، فكان مما قاله له: "..ويزعم أنه [أي الإمام الذين يدين هشام بطاعته] لو أمره بالخروج لخرج، وإنما كنا نرى: أنه ممن يرى الإلباد بالأرض".

فطلب هارون من يحيى أن يجمع المتكلمين، ويستمع إليهم هو من وراء الستر "لا يفطنون بي، ولا يمتنع كل واحدٍ واحدٍ منهم أن يأتي بأصله لهيبتي".

ففعل ذلك يحيى، فلما تكلم هشام، وأظهر عقيدته ورايته، كانت النتيجة هي أن هارون: "بعث إلى أبي الحسن موسى، فحبسه، فكان هذا سبب حبسه، مع غيره من الأسباب"[6].

وفي بعض النصوص: أن الإمام الكاظم عليه السلام، أرسل إلى هشام مرةً يقول: "كيف تشرك في دمي، فإن سكتَّ، وإلاَّ.. فهو الذبح"[7].

سياسات... وسلبيات في النصوص المتقدمة:

ونستفيد مما تقدم:

1 ـ أن طرح بعض المسائل العقائدية والفكرية، في المجالات العلمية، من شأنه أن تؤثر سلباً على الإمام عليه السلام وشيعته "فإن الأمر شديد".

وهذا بالذات يفسر لنا نهي الأئمة عليهم السلام عن الإذاعة، حتى اعتبروها مروقاً من الدين تارة، وقتلاً عمدياً لشخص الإمام أخرى، وسبباً للبلاء والابتلاء بحر الحديد، وبالسجون ثالثة، إلى غير ذلك مما صرحت به الروايات الكثيرة في هذا المجال[8].

ويلاحظ: أن معظم هذه الروايات قد رويت عن الإمام الصادق عليه السلام، وبعضها عن الإمام الباقر صلوات الله وسلامه عليه، وما سوى ذلك نزر قليل.

ومما يصدق ذلك: أن الرواية المتقدمة قد صرحت، بأن استمرار هشام في طرح القضايا العقائدية، لسوف يؤدي إلى قتل الإمام عليه السلام.

وتقدم أيضاً، أن الرشيد قد اعتقل أصحاب هشام وإخوانه، وأخذ الخلق به. وإنه لما سمع الرشيد كلام هشام، بعث إلى أبي الحسن موسى(ع) فحسبه !!

إلى غير ذلك مما يجده المتتبع، ولا مجال لاستقصائه في عجالة كهذه.

2 ـ إن الخلفاء العباسيين يتعاملون مع هذا الأمر أي طرح القضايا العقيدية والفكرية من موضع الإحساس العميق بالخطر الداهم، ويرون طرح مثل هذه القضايا، وتركيزها على أسس فكرية وعلمية، يساوي ذهاب ملكهم، وتقويض أمرهم، فلقد تقدم كيف: " عض الرشيد على شفته، وقال: مثل هذا حي، ويبقى لي ملكي ساعة واحدة !! فوالله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مئة ألف سيف".

ثم كانت الملاحقة لهشام، وأصحابه، حتى أخذ الخلق به.

3 ـ إنهم كانوا يرصدون الأفكار والعقائد التي تطرح ويدرسون طبيعتها، وآثارها فيما يمس موقعهم في الحكم، وطروحاتهم، وهذا ما يشير إليه قول يحيى بن خالد للرشيد:

"ويزعم أنه لو أمره بالخروج لخرج. وإنما كنا نرى: أنه ممن يرى الإلباد بالأرض".

4 ـ لقد اتضح من النصوص المتقدمة: أن الخلفاء وأعوانهم كانوا يمارسون عملية استدراج منظم ومدروس للطليعة المثقفة، لطرح قضاياها الفكرية، والإعراب عن خصائصها العقائدية والمذهبية.

وكانوا يستفيدون من ذلك في فهم مدى استجابة الناس لهذا الفريق، أو ذاك، والوقوف على تأثيرات هذا الفكر، وانعكاساته على حالات الناس في مجال التعامل، والحركة، والموقف.

5 ـ أن ابن المفضل يؤلف للخليفة المهدي العباسي كتاباً في الفرق، يخترع فيه فرقاً من عند نفسه، وينسبها إلى شخصيات فاعلة ومؤثرة في المجال الثقافي والفكري، وتساهم في نشر الوعي الرسالي والإيماني في الأمة، مثل: زرارة، وابن أبي يعفور، وعمار الساباطي، وسواهمه ممن لم يكونوا اصحاب فرق أصلاً.

فهم إذن يمهدون بذلك ما يفيد في خلق الذرائع لضرب تلك الشخصيات الفاعلة، والتخلص منها في الوقت المناسب.

الزندقة كأداة:

ولعل هذا العمل يدخل في نطاق اهتمامات الدائرة التي أنشؤوها لمكافحة حركات المعارضيين والتخلص منهم كأشخاص، قبل أن يستشري أمرهم، ويستفحل، وذلك تحت شعار مكافحة الزندقة، والقضاء على الزنادقة.

ومن الواضح: "أن الاتهام بالزندقة في ذلك العصر، كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة، كما لاحظ ذلك الأستاذ (فيدا)"[9].

وقد قال الشاعر:

ومتى تولى آل أحمد مسلم * قتلوه، أو وصموه بالإلحاد[10]

وقد اتهم شريك بن عبد الله القاضي بالزندقة، لأنه لم يكن يرى الصلاة خلف الخليفة المهدي العباسي[11].

وأراد الرشيد أن يقتل عمّه حينما طرح سؤال كيف هي آدم موسى؟ حينما ذكرت رواية مفادها ذلك[12].

وهذا يعني: أن لفظ الزنديق قد أطلق على كل من يناقش في أحاديث الصحابة، وعلى كل من يعارض نظام الحكم، والحكام، وأهواءهم. وأنه اتخذ كأداة – لها طابع ديني وعلمي ثقافي، يستهدف بالدرجة الأولى هذا القطاع الواعي من الناس ويجد المبررات لتصفية من يريد الحكم، الحكم تصفيته منهم، لأن هؤلاء هم القادة والذادة في كل حركة وعنها.

الإفلاس.. هو المسؤول:

وواضح: أن إفلاس الحكم والحكام في المجال الفكري، وعجزهم عن مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، وفشلهم في محاولاتهم خداع الناس عن طريق استغلال لقب "المهدي" تارة، ودعاوى إرث الإمامة أخرى، وتأسيس الفرقة التي تسمى بالراوندية ثالثة[13]، وغير ذلك.

إن إفلاسهم وعجزهم، وفشلهم هذا – بالإضافة إلى ما قدمناه أوائل هذا البحث – كان هو المسؤول إلى حد ما عن انتهاجهم تلك السياسات الغادرة، والدموية، حين وجدوا: أن مصدر الخطر الوحيد والأكيد هو هذه الثلة الواعية والمثقفة، التي لا يملك الحكم وسيلة لدفع أخطار فكرها الرسالي الهادف والاصيل، فيما يملكه من طاقات فكرية، وإعلامية، فلجأ إلى أسلوب الغدر والإفتراء، واختار طريق الجريمة، وسفك الدماء.

قال أحمد امين المصري: كان المنصور: "يقرب المعتزلة إذا شاء، ويقرب المحدثين والفقهاء، ما لم تقض تعاليم أحدهم بشيء يمس سلطانه، فهناك التنكيل"[14].

وقال السيد أمير علي: "... كان خلفاء بني العباس يسحقون كل اختلاف معهم في الرأي بصرامة، وحتى الفقهاء المعاصرون كانوا عرضة للعقاب، إذا تجرؤا على الإفصاح عن رأي لا يتفق ومصلحة الحاكمين"[15]. ولسنا هنا في صدد تتبع النصوص التي تدخل في هذا المجال.

حكمة الأئمة في مواجهة سياسات الحكام:

ولكن رغم كل محاولات الحكام لطمس معالم الفكر الرسالي الأصيل، ورغم سياسات الاضطهاد والتنكيل التي بنوا عليها حكمهم، وأقاموا عليها عرشهم، فإن التشيع لأهل البيت عليهم السلام كان يجد سبيله إلى كل قلب، وأن أطروحتهم كان يستجيب لها كل ذي فكر حر، وعقل سليم، وكان نهجهم العقائدي والإيماني ينتشر ويزيد باستمرار وقوة. حتى أصبح الحاكم يجد نفسه حتى وهو محاط بكبار وزرائه وقواده، ورجال حكمه، وحتى وهو في بيته وبين خدمه ونسائه، لا تكاد تقع عينيه إلاّ على شيعي، أو متهم بالتشيع، أو من يخشى منه أن يميل إلى هذه النحلة، ويستجيب لهذه الطريقة[16].

ومما زاد في رعب الهيئة الحاكمة، أنها وجدت: أن الإمام الكاظم عليه السلام – وهو في سجنها، وفي قبضتها – قد استطاع أن يؤثر على أعوان الحكم، وأشياعه، فكيف لو كان هذا الرجل حراً طليقاً، وسنحت له الفرصة للاتصال بالناس، ونشر علومه، وإشاعة خصائصه وأخلاقياته فيهم؟ وقد عبر عن ذلك يحيى بن خالد، حينما قال للرشيد عن الإمام الكاظم – المسجون!!:

"قد – والله – أفسد علينا قلوب شيعتنا"[17].

فمتى كان ذلك؟ وكيف؟ وبأي وسيلة؟! يبقى الحكم حائراً أمامها، ولا يملك لها جواباً مقنعاً ومقبولاً. ولم يستطع التاريخ أن يفصح لنا عن شيء ذي بال منها.

المصاعب.. والمتاعب بنظرة أخيرة:

ولكننا يجب أن لا ننسى أخيراً: أن ما عاناه الإمام عليه السلام من آلام ومتاعب قد نشأ قسط منه من عدم قدرة كثير من الشيعة على الكتمان، وعن إذاعتهم لأمرهم، وطرحهم بصورة علنية وسافرة لكثير من القضايا قبل توفر الشروط والظروف الموضوعية لطرحها، والإعلان بها الأمر الذي فوّت كثيراً من الفرص عليهم، وعلى الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم، وعرَّضهم لكثير من المتاعب، التي كان بالإمكان تجنبها، ونبَّه خصومهم إلى أمور لم يكن من المصلحة تنبههم إليها، ووقوفهم عليها.

ويكفي أن نذكر هنا: أن هذه الملاحقة الأكيدة، وتلك المراقبة الصارمة قد تعذر معها تعميق المعاني الإيمانية لدى كثير من الناس، لتصل إلى درجة تكفي لإحداث تحول أساسي. في الوضع القائم آنذاك. وأبقى القضايا في مستوى الفكر لدى فريق، وفي مستوى العاطفة لدى فريق آخر، وهو الأعم الأغلب.

وقد أوضحنا ذلك في موضع آخر[18].

والحمد لله، وصلاته وسلامه على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.

قم المشرفة 15 شعبان 1409ﻫ.ق.

جعفر مرتضى العاملي


[1] التنبيه والإشراف ص295.

[2] راجع كتابنا: الحياة السياسية. للإمام الرضا عليه السلام.

[3] راجع: الفهرست للشيخ الطوسي ص356 والفهرست لابن النديم ص323 وراجع هامش ص324 عن تكملة الفهرست والأعلام للزركلي ج8 ص85 وقاموس الرجال ج9 ص356 و317 و318 ولسان الميزان ج6 ص194. ولكن يحيى عاد فأغرى به الرشيد. ولعل هذه المجالس كانت تنظم بتنسيق بين الخليفة ووزيره.

[4] راجع: اختيار معرفة الرجال ص265-266 و269 وص270-271 والبحار ج48 ص195-196 وقاموس الرجال ج9 ص324 وتنقيح المقال ج3 ص296 ولا بأس بمراجعة ضحى الإسلام ج1 ص141 ومشاكلة الناس لزمانهم ص24.

[5] راجع: إكمال الدين وإتمام النعمة ج2 والبحار ج48 ص197-204 وقاموس الرجال ج9 ص337-342.

[6] اختيار معرفة الرجال (المعروف برجال الكشي) ص258-259 و262 والبحار للعلامة المجلسي ج48 ص189-192 وقاموس الرجال ج9 ص320.

[7] اختيار معرفة الرجال ص271 وقاموس الرجال ج9 ص332.

[8] راجع في هذه الأحاديث: بحار الأنوار ج72 ص68 حتى ص89 وج2 ص74 و75 و79 وسفينة البحار ج1 ص490 و491 وقصار الجمل ج1 ص225 و227.

[9] من تاريخ الإلحاد في الإسلام ص37 تأليف: عبد الرحمن بدوي.

[10] راجع: ملحقات إحقاق الحق ج9 ص688 عن مفتاح النجا للبدخشي ص12 مخطوط وعن قلندر الهندي في روض الأزهر ص359، وديوان الطغرائي.

[11] البداية والنهاية ج10 ص153.

[12]  راجع تاريخ بغداد ج14 ص7 و8 والبداية والنهاية ج10 ص215 والبصائر والذخائر ج1 ص81 وتاريخ الخلفاء ص285.

[13] راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا(ع)، فصل: سياسة العباسيين ضد العلويين.

[14] ضحى الإسلام ج3 ص202 وراجع ج2 ص46 و47.

[15] روح الإسلام ص302.

[16] راجع كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا(ع) وكتاب: البحار وغيره.

[17] الغيبة للشيخ الطوسي ص20 والبحار ج48 ص230 عنه.

[18] راجع تمهيد كتابنا: الحياة السياسية للإمام الجواد عليه الصلاة والسلام.

 


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=164
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 02 / 06
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28