• الموقع : سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي .
        • القسم الرئيسي : النتاجات العلمية والفكرية .
              • القسم الفرعي : تقريظات ومقدمات كتب .
                    • الموضوع : مع الشيح الأبطع في شعره .

مع الشيح الأبطع في شعره

تقديم لكتاب: الدرة الغراء في شعر شيخ البطحاء (ديوان أبي طالب)

جمع وتحقيق وشرح: باقر قرباني زرين


بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

وبعد..

فإن التقديم لديوان شيخ الأبطح "أبي طالب" رضوان الله تعالى عليه، ليس على حد التقديم لأي كتاب كان. وذلك بسب الحساسية الكبيرة لدى البعض تجاه الحديث حول هذا الرجل العظيم، ثم الحكم له أو عليه.

وترجع هذه الحساسية إلى مخلفات تاريخية، فرضتها عصبيات وأحقاد، وأهواء وميول، وتوجهات سياسية معينة، جعلت الكثيرين ينظرون إلى هذا الرجل الفذ، والمجاهد الصابر نظرة بغيضة، ومسمومة، وظالمة، من خلال الاستسلام لاتهامات زائفة، وجهت إليه رحمه الله، دون أن تملك المبررات الكافية والمعقولة في تاريخ أبي طالب، لا على أرض الواقع، من خلال السلوك والممارسة، ولا على مستوى الكلمة والشعار، في نطاق تسجيل الموقف.

فلا غرو ـ والحالة هذه ـ إذا قلنا: إننا حين نريد أن ننصف أبا طالب، وأي إنسان آخر، فإن علينا أن ندرسه من خلال حركته وممارسته، واستناداً إلى مواقفه وشعاراته.

ومن هنا، فإنه يصبح من الضروري لنا: أن نستنطق تصريحاته، وأقواله، بما في ذلك أوامره ونواهيه، وتوجيهاته، وخطبه، وكذلك أشعاره التي أنشأها، مع الأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الأجواء والمناخات التي انطلق فيها، وسجل موقفاً تجاهها، سواء في القبول والتأييد، أو في الرد والتفنيد.

ولكن من الواضح: أن ذلك يحتاج إلى توفر تام، وجهد مستقل، نتركه لأهل الاختصاص، مكتفين بإلقاء نظرة عابرة تمكننا من التقاط بعض الملامح والمميزات، وتقديمها إلى القارئ الكريم، على أمل أن يسهم ذلك في بعث الرغبة، وإثارة الحنين لدى من يمتلك المؤهلات للقيام بدراسة مستوعبة لحياة هذا الرجل العظيم، والفذ، والمظلوم.

فنقول:

الشعر بدايةً ومنطلقاً:

إننا لا نجازف إذا قلنا: إن الشعر العربي ـ وربما شعر كل الأمم ـ لم يكن في بداياته، وفي انطلاقته الأولى عبر الزمن، شيئاً غريباً، أو دخيلاً على حياة الإنسان. ولا كان شيئاً غامضاً، أو معقداً، تعبت العقول في نحته وصناعته، أو في صياغة قوانينه وضوابطه.

كما أنه لم يكن مرحلة حضارية فرضت مستوى الإبداع فيها وسائل توفرت، وقدرات تكاملت وتعاضدت، وفقاً لمعادلات علمية، أو فنية، أحتاجت الأمم إلى أن تقطع شوطاً كبيراً في مجالات التقدم العلمي، أو الفني، لتتمكن من تحريرها، وتقريرها.

وإنما الشعر ـ خصوصاً حين يكون في بدايات انطلاقته لدى أي كان ـ هو التعبير الفطري الصافي، والساذج، والبرئ عن مشاعر وأحاسيس تراود هذا الإنسان في الحالات المختلفة. وهو الاستجابة العفوية والطبيعية لها.

ولأجل ذلك نجده يبتعد عن أي تكلف، أو تعسف، أو إنحراف، أو نفاق، أو عدوانية.

وهذا ما يفسر لنا ظاهرة: أن الإنسان إذا تكاملت إدراكاته، ونما إحساسه، وتفاعلت مشاعره بصورة طبيعية وسليمة، فإنه ينطق بالشعر بصورة تلقائية وعفوية. وإن كان ربما يحتاج إلى بعض التهذيب والتدريب، تماماً كما يحتاج الطفل إلى ذلك حينما يريد أن يمارس المشي أو الكلام.

ويصبح بعد هذا من الوضوح بمكان سر ما نراه من تأثير الشعر السريع والقوي على العقول والنفوس، ولن نفاجأ بما نراه عبر التاريخ من آثار عميقة له على العقل، والفكر والمشاعر، حتى لقد أصبح بسبب ذلك بالنسبة إلى الإنسان العربي هو الوسيلة الإعلامية الفضلى، خصوصاً مع ما له من وقع موسيقي آسر، ونغم أخاذ.

ومن يستطيع أن ينكر تأثير الشعر على مجمل حالات هذا الإنسان، وعلى حركته، وسلوكه، وعلى قراراته ومواقفه ؟ وهو يرى كيف أنه عبر التاريخ قد استطاع أن يجعل من الجبان الخانع شجاعاً مقداماً، ومن المحزون المهموم مسروراً مستبشراً، ومن المتردد المتشائم متفائلاً وحازماً !!

وكيف يستغرب من الإنسان العربي: أن يهتم بالشعر، وأن يحفظه ويتناقله، وأن يدونه ويحتفظ به. هذا عدا عن إقامته له الندوات، والتجمعات، والمواسم، والمراسم في طول البلاد وعرضها ؟!

ويصبح من الطبيعي ـ والحالة هذه ـ أن يتبوأ الشاعر مكانة مرموقة في مجتمعه ومحيطه، حتى ليصبح وجه القبيلة، ولسانها، وهاديها، ورائدها، مادام أن بيتاً من الشعر قد يكون سبباً في عز قبيلة بأسرها، أو في ذلها على مر الأيام.

كما أنه قد يتسبب في إثارة حرب، أو في إخمادها، وفي إفساد وزعزعة ملكٍ، أو تقوية وترسيخ دعائمه. وقد يوصل إنساناً ما إلى أوج العزة والكرامة، أو يلقي به مذؤوماً مدحوراً في بؤر الذل والمهانة. ثم إنه قد يمنحه النعيم المقيم والرخاء أو يسلمه إلى براثن البلاء والشقاء.

هذا من ناحية.

ومن الناحية الأخرى، فقد يتمكن الشعر من قلب الحقائق وتشويهها، ومن الإخلال بالموازين الإنسانية والأخلاقية وتمويهها، ليصبح قادراً والحالة هذه على تبرير حالات الانهزام والتراجع، والسقوط والخنوع في كثير من الأحيان.

وهذا النموذج الأخير هو الشعر المأجور والزائف، الذي يتخذه الحكام وسيلة لمآربهم، والفاشلون الأغبياء ذريعة لتغطية فشلهم.

ولسنا بصدد الحديث عن هؤلاء الآن.

هذا الديوان:

وإذ قد ذكرنا هذه اللمحة الخاطفة عن الشعر، ولاسيما العربي منه، فقد حان الوقت لنلقي نظرة على ديوان أبي طالب رحمه الله، الذي تجمعت فيه طائفة من شعر هذا الرجل المجاهد والصابر، لنجد: ان شعره رحمه الله، كما أنه قد جاء أقوى وأقطع من السيف، فإنه أيضاً قد جاء أصفى وأرق من النسيم، وأروع وأعذب من الحياة في جنات النعيم.

وكما هو شعر العقل والحكمة، والوجدان والضمير، فإنه أيضاً شعر العاطفة والمشاعر الصادقة، كما هو شعر النضال والجهاد، وشعر الكرامة والشهامة، سواء في ذلك جاهلية وإسلامية.

وإنك لتلمس فيه بعمق كل خلوص وصفاء، وكل نبل وطهر، بكل ما لهذه الكلمات من عمق في المدلول، ومن أفق رحب في المدى الأرحب.

وعدا عن ذلك كله، فإنه كان شعر الموقف في إطار المناسبة، كما كان شعر المناسبة في نطاق ترسيخ الموقف، حيث كان الصخرة الصلبة، التي تحطمت عليه أطماع وأهواء الطواغيت والجبارين، كبروا، أو صغروا، مادام أن كثيراً من هؤلاء الصغار يحملون في داخلهم روح العنجهية والطغيان، وجنون العظمة والجبروت.

وقد أعز الله في شعر أبي طالب دينه، وحمى به وليه، وأذل به الكفر والنفاق، وكبت به الكافرين والمنافقين.

لأنه في نفس الوقت الذي كان فيه شعر التحمل والصبر في مواجهة كافة الضغوط الخانقة، فقد كان شعر الصمود والتصدي لكل التحديات، مهما كبرت، وللأعاصير الهوجاء مهما زمجرت وعصفت.

ثم كان شعر الفكر والوعي، والتوجيه والهداية، والدعوة الخالصة والمخلصة إلى الله سبحانه، وإلى دينه القويم، وصراطه المستقيم.

إلى جانب ذلك كله، نجد انه الشعر السهل الممتنع، والبليغ والقوي، ليس فيه صلف، ولا سرف، ولا نكارة، ولا وحشية.

كما أنك لا تجد فيه أي نوع من أنواع المجون والتبذل، أو الاستجداء أو الاستخذاء، أو الانهزام والتنصل.

ولا تستطيع أن تلمح فيه أيضاً أي لون من ألوان التكلف، أو الركاكة، أو التعسف، فهو متماسك متناسق، فيه جزالة وصفاء، وصدق ووفاء، وبذل وعطاء، لا تشك في أنه نابع من وجدان منصف، وضمير حي، ترفده مشاعر الطهر والصدق والإخلاص، ويفيض من معين البطولة والرجولة، والشهامة والتحدي.

نعم.. إنك تلمس كل ذلك بسهولة ويسر، في شعر أبي طالب، مؤمن قريش، والرجل المظلوم، والمظلوم حقاً، الذي تصدى وتحدى الطواغيت والجبارين بإيمانه، وجاهد في سبيل الله بنفسه، وولده، وبماله، وبيده ولسانه، فرغمت بجهاده هذا أنوف، وذلّت معاطس، ضج بها حسد بغيض، وحقد كامن، وجرح لا يداوى.

الرجل الفذ:

وخلاصة الأمر: إننا حينما نقرأ شعر أبي طالب في هذا الديوان، فإنما نقرأ فيه أبا طالب نفسه، ونتعرف على خصائصه وسجاياه، وعلى همومه وقضاياه، وننطلق في آفاقه الرحبة لنتلمس فيها عمق إيمانه، وحرارة وصدق مشاعره، وصفاء روحه، ونعيش آلامه وآماله، ونشاركه أفراحه وأتراحه، ونقف على طبيعة مشاكله التي واجهها، وقضاياه التي عاشها، وعاش لأجلها، وكافح وناضل وجاهد في سبيلها.

وبقراءتنا لديوان أبي طالب، فإننا نقف على شاطئ زاخر بالعاطفة الصادقة ونستشرف به بحراً، تحرك أمواجه الهادرة روح طهور، ووجدان واع، وضمير حي، هذا إلى شجاعة نادرة، وإباء حازم، وتصميم لا يلين، ولا يساوم، بل يتحدى ويقاوم.

ونقرأ في ديوان أبي طالب رحمه الله تعالى، معاناة القضية، ونبل الغاية، وهدى الرسالة.

ونقرأ فيه الإنسان يعيش إنسانيته ويرعاها، والرسالي الذي يؤمن برسالته، ويحفظ لها قداستها.

لم يستأكل بشعره، ولا اعتدى به على أحد، ولا طلب به مالاً، ولا جاهاً، ولا ابتغى به شيئاً من حطام الدنيا. بل قدم نفسه، وشعره وجاهه، وماله، وولده، وكل غال ونفيس، والدنيا بأسرها قرابين في خط الجهاد في سبيل الله سبحانه، ومن أجل إعلاء كلمة الله، والدفاع عن المستضعفين من عباده.

ونقرأ في شعر أبي طالب تاريخاً حياً، يحدثنا عن كثير من اهتماماته قبل بعثة النبي، ثم نقرأ فيه الكثير مما يتعلق بحقبة زمنية بالغة الحساسية، وهي حقبة ما بعد البعثة، فنجده يرسم لنا الكثير من معالمها بكل أمانة ودقة، وبكل وعي، وصدق وصراحة.

فهو يحدثنا في كل ذلك عن الأفراح والأتراح، وعن المآثر والمفاخر، وعن الآلام والهموم والأحزان، وعن الخصائص والمزايا، وعن الهموم والمتاعب، وعن الأهداف والطموحات، وعن المواقف النبيلة، وعن الفكر والوعي، وعن العواطف والمشاعر.

إلى غير ذلك من شؤون وقضايا، حفلت بها تلك الحقبة الزمنية الحساسة جداً من عمر الإسلام والإيمان، مما لا غنى لمن يريد أن يدرس تاريخ الإسلام في أول انطلاقة دعوته عن الإلمام به، ومعرفته بعمق ووعي، وبصدق وأمانة.

نعم.. هذا هو شعر أبي طالب، أو فقل: هذا هو أبو طالب في شعره.

ذنب أبي طالب الذي لا يغفر:

ولكننا رغم لكل ما تقدم نقول:

إنه يؤخذ على أبي طالب شيء واحد، هو من أكبر الذنوب، وأعظم السيئات والعيوب، التي يستحق من يتلبس بها – شاء أم أبى – الحساب العسير، ولابد أن يحرم لأجلها من كل امتياز، ويسلب منه كل وسام.

وهذا الذنب العظيم والجسيم هو أنه كان أباً لذلك الرجل الذي تكرهه قريش، ويبغضه الحكام، وكانوا يتمنون له كل سوء، وكل ما يسوء، وقد قطعوا رحمه، وجهدوا للحط من شأنه، وصغروا عظيم منزلته، لا لشيء، سوى أنه كان قد قتل آباءهم وإخوانهم على الشرك والكفر، وهو يدافع عن دين الله سبحانه، ويجاهد في سبيل الله، بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا الرجل هو – بصراحة – ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وزوج ابنته، وأبو سبطيه، وهو المسمى به "علي" أمير البررة، وقاتل الكفرة الفجرة، الذي كان مدينة علم النبي(ص)، وكان الولي، والوصي صلوات الله وسلامه عليه وعلى أبيه، وعلى الأئمة الأطهار من بنيه.

فكان لابد ـ بنظرهم ـ من نسبة كل عظيمة إليه، وإلى أبيه ابي طالب، ووضع الأحاديث المكذوبة في حقهما، وتزوير تاريخهما، ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

فحفلت مجاميعهم الحديثية والتاريخية بألوان من الدجل والتزوير، وأفانين من الكذب والبهتان، والأفائك والأباطيل، حتى لقد نسبوا إلى أبي طالب الكفر – والعياذ بالله – ولو كان ثمة شيء أعظم من الكفر لنسبوه إليه، ووصموه به.

وقد جاءت هذه الأفيكة الظالمة بعد عشرات السنين من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي هو المدافع الأول عن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه، كما يظهر من كثير من المواقف له (ص)، حدثنا عنها التاريخ، وحفظتها لنا كتب الحديث والرواية. رغم ما بذله الحاقدون من جهود لطمسها وسواها من الحقائق الناصعة، والشواهد والبراهين الساطعة.

ولو أن أبا طالب رحمه الله، كان أباً لمعاوية مثلاً، أو لمروان، أو لأي من الذين تصدوا للحكم من المناوئين والمنحرفين عن أهل البيت عليهم السلام، وعن خطهم ومنهجهم، لرأيت ثم رأيت من آيات الثناء عليه، وهي تتلى آناء الليل، وأطراف النهار، ولوجدت الأوسمة تلاحقه وتنهال عليه من كل حدب وصوب، وبلا كتاب ولا حساب. ولألفيت الذين ينبزونه بتلكم الأكاذيب والأباطيل، ويرمونه بالبهتان، هم أنفسهم حملة رايات التعظيم والتبجيل، والتكبير والتهليل له رحمه الله.

ولربما تجد من بينهم من يدعي: ان أبا طالب قد آمن بالنبي حتى قبل أن يبعث (ص) نبياً – كما ادعوه لبعض من يوالونهم ويحبونهم!!

ولعل بعضهم يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، فيقول فيه، كما قالوه في بعض سلفهم: لو لم أبعث فيكم لبعث فلان!! أو ما شاكل ذلك.

ولكننا نقول: إن أبا طالب قد كان محفوظاً جداً، حيث لم يكن قريباً لهؤلاء، ولا لمن يتولاه هؤلاء، فنجا من أن تنسب إليه فضائل مكذوبة، ومن أن يعطى أوسمة لا حقيقة لها، إذ يكفي هذا الرجل من الفضائل والأوسمة ما كان قد ناله عن جدارة واستحقاق، بجهاده، وبإخلاصه، وبعمله الصالح الذي نال به رضى الله سبحانه. وذلك هو الفضل العظيم، والحظ الأسعد، والمقام الأمجد.

وختاماً نقول:

رحم الله أبا طالب، وحشره مع من كان يتولاه، محمد وآله، صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.

حرر في يوم الأحد 5/جمادى الأولى/1413ﻫ.ق

10/آبان/1371ﻫ.ق 1/تشرين الثاني/1992م.ش

جعفر مرتضى العاملي


  • المصدر : http://www.al-ameli.com/subject.php?id=272
  • تاريخ إضافة الموضوع : 2014 / 04 / 28
  • تاريخ الطباعة : 2024 / 03 / 28