بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين..
سماحة السيد جعفر مرتضى العاملي دام توفيقه..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أشكركم على إجابتكم على سؤالي حول كيفية معرفة الله بالله، ولكن لي بعض الأسئلة حول الجواب أرجو منكم توضيحها.
أولاً: معرفة ذات الواجب أمر محال، وقد أجبتم بقولكم: «لا مجال لإدراك الذات الإلهية». وذكرتم الأحاديث الواردة حول هذه المسألة، إذن معرفة الله أمر غير ممكن.
وذات الله أمر بسيط وليس مركباً، وعليه فلا يمكن أن تكون المعرفة به جزئية، فباب المعرفة مسدود علينا.
من ناحية أخرى، فإن معرفة آياته وأسمائه ليست معرفة عن الله، بل كل تلك المعارف معرفة لمخلوقاته، ومعرفة المخلوق غير معرفة الخالق.
وقد ذكرتم أن تلك الآثار والتجليات إنما تكون بإرادته وقدرته واختياره.. لأن كلمة من تدل على التبعيض. وذكرتم قول الطريحي: أن المراد من معرفة الله تعالى: الاطلاع على نعوته وصفاته. ومعرفة الصفات والنعوت غير معرفة الذات، فضلاً عن أنه تعالى ليس له صفة، كما قال أمير المؤمنين «عليه السلام»: «وكمال توحيده نفي الصفات عنه».
ثانياً: معرفة الله عبر آياته وأسمائه غير معرفة الله بالله، حتى لو كان محمد وآل محمد. لقول الصادق «عليه السلام»: «فمن لم يعرفه به إنما يعرف غيره». والناقص لا يعرِّف الكامل. بل قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «بالله عرفت الأشياء» يكفي في منع تعريف العلة بالمعلول لأنها أرفع منه. فكل آياته وأسمائه الحسنى تعالى معلولة له.
ثالثاً: إن نبينا الأعظم وأهل بيته الأطهار أعظم أسمائه، ولكن المعرفة الحاصلة من طريقهم ليست معرفة بالله. وقد أجاب أمير المؤمنين «عليه السلام»: أنه عرف الرسول «صلى الله عليه وآله» بالله.
ومعرفة الله بالله غير معرفة الله بفعله وخلقه وأسمائه، فمعرفة الفاعل عن طريق الفعل ليست كمعرفة الفاعل ذاته.
رابعاً: محمد وآله «عليهم السلام» هم أدلاء على الله، وهم أعرف الناس بالله ويعرفون الطريق إلى الله، ولكن هذا ليس معناه أن معرفتهم هي معرفة الله، لأن معرفة الله لا تكون إلا بالله.
خامساً: صحيح أن العقل من وسائل معرفة الله، ولكن ليس معرفة لله بالله.
سادساً: والمعرفة عن طريق الفطرة ليست معرفة لله بالله، لأن الفطرة عاجزة عن المعرفة الكاملة.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين..
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
1 ـ إن المرتكز الأساس للأسئلة الواردة في رسالة الأخ الكريم هو الباء في قوله «عليه السلام»: «بذاته». فإن المراد بها معنى التسبيب.. وليس المراد بها الآلة، فهي ليست كالباء التي في مثل قولنا نشرت الخشب بالمنشار. بل المراد بها أن الله تعالى هو الذي عرفنا بنفسه، ومهَّد السبيل إلى هذه المعرفة، ولولا تمهيده السبل وفتحه أبواب المعرفة أمام البشر، بإيجاده الوسائل، لما حصلت هذه المعرفة.
مع أن الكثيرين منهم، قد ضلوا السبيل، فأشركوا، أو عبدوا غير الله.. كالملائكة، والشمس والقمر، والكواكب، والأصنام، وبعض البشر، وبعض الأشجار، وما إلى ذلك.
فلو لم يخلق الله تعالى العقل لنا لم نستدل عليه، ولم نعرف بوجوده تعالى، ولو لم يودع فينا الفطرة لضللنا عنه.. ولو لم يخلق ما يدل على قدرته وعلمه، وحكمته، لم نستدل علىه وعلى هذه. ولو لم يفعل ما يدل على رحمته، ولم يجعل قانون العلية والتسبيب لم نستدل بالمعلول على العلة، وبالعكس. وهكذا الحال حين خلق الأنبياء والأوصياء ليدلوا عليه، وليهدوا الناس إليه سبحانه.
فليس المراد بقوله: «يا من دل على ذاته بذاته» أنه تعالى قد جعل نفسه آلةً لمعرفة نفسه، كما تكون المنشار آلة للنشر والقطع. والقلم آلة للكتابة، والسوط وسيلة وآلة للضرب أو لغيره.
2 ـ بالنسبة للمراد بالدلالة نقول: الدلالة هي ما يوجب مرتبة من مراتب العلم. فدلالة النور أو الدخان على موضع وجود النار مرتبة، ودلالة كلمة نار على الحريق مرتبة أخرى، ورسم النار وصورتها مرتبة أخرى، وإراءة النار بالمشاهدة والرؤية دلالة ومرتبة أيضاً.. وملامسة النار، وتلمس حرارتها والدخول فيها دلالة أيضاً.. وهكذا يقال بالنسبة للذات الإلهية.. فقد تقتصر المعرفة على مجرد العلم بوجود الله. أعني وجود واجب الوجود.. وقد تتعدى المعرفة هذا الحد إلى المعرفة بأنه قادر حي قيوم عالم. وقد تزيد المعرفة له بأن يعلم بأسمائه الحسنى، ويعرف شيئاً من بديع صنعه، وعظيم ملكه، وقد يتعدى الأمر إلى ما هو أعمق وأوسع من ذلك.
فهذا كله يؤدي إلى المعرفة بوجوده تعالى وإن لم يعلم بكنهه وحقيقة ذاته بسبب استحالة ذلك.
فالمراد بالدلالة هو هذا النوع من الدلالة، وبالمعرفة هذا المدى من المعرفة.
فقول السائل في الصفحة الأولى من رسالته من أن «باب المعرفة الأساس مسدود علينا». هو صحيح بالنسبة لمعرفة كنه الذات المقدسة.. أما معرفة أصل وجود إله، ومعرفة أنه عالم قادر حي قيوم، ومعرفة أنه رحيم كريم، وخالق ورازق، فليس محجوباً عنا، ولا مسدوداً أمامنا.
وقول السائل في الصفحة الأولى: «إن معرفة صفاته وأسمائه معرفة لمخلوقاته، وليست معرفة لله، ومعرفة المخلوق غير معرفة الخالق»..
صحيح، إن كان يريد بالمعرفة المعرفة لذات الله تعالى وحقيقته.. وإن كان يريد أن وجود المخلوق لا يدل على أصل وجود الخالق، فهو غير صحيح. بل هو يدل على ذلك.
3 ـ والسبب في وقوع الكاتب في هذه الشبهة هو أنه فسر قوله: «يا من دل على ذاته بذاته» بأن المراد الدلالة على حقيقة الذات، مع أن المراد هو الدلالة على أصل وجود الذات، وعلى أصل وجود صفاتها التي هي عين الذات أيضاً، وإن لم نعرف كنه تلك الصفات.
فإن الدلالة على وجود صفة هي عين الذات بعد الدلالة على وجود نفس تلك الذات، وإن لم نعرف كنهها أمر مقبول وواقع. فأنا أعرف وجود العقل في الإنسان، ووجود الروح، ولا أعرف كنه تلك الروح ولا حقيقة ذلك العقل.
وبذلك يظهر: أن قول السائل في أول الصفحة الثانية: إن العلم ببعض مراتبه عز وجل وببعض صفاته غير ممكن صحيح ومقبول، إن كان المراد العلم بكنه الذات وكنه الصفات التي هي عين الذات.
أما العلم بأصل وجودهما ـ أعني الذات والصفات ـ بسبب علمي بآثارهما، فلا إشكال فيه، فأنا أعلم بوجودهما، وإن لم أعلم بكنه هذا الموجود وذاك ـ كما أعلم بوجود العقل والروح بسبب علمي بآثارهما، ولا أعلم بكنههما ـ.
وقول السائل في الصفحة الثانية: معرفة الصفات والنعوت غير معرفة الذات.. غير مقبول.. لأن صفاته تعالى ليست زائدة على ذاته، بل هي عينها.
ومعرفة وجود الصفة ملازم للمعرفة بوجود موصوفها.. وليس المقصود معرفة حقيقته وكنهه، ولا حقيقة الصفة وكنهها فيه..
وقوله في الصفحة الثانية: معرفة الله عبر آياته وأسمائه غير معرفة الله بالله. غير صحيح، لأن الباء هنا للتسبيب، وليست بمعنى الآلة.. أي أن الله تعالى هو الذي أوجد الأسباب التي عرفتنا بوجوده. فإن إيجاده لمخلوقاته قد تسبب بمعرفتنا بوجوده، تماماً كما يدل وجود المعلول كالدخان مثلاً على وجود علته، وهي النار.
وقوله في الصفحة الثالثة: إن الناقص لا يصلح لتعريف الكامل.. صحيح أيضاً في نفسه، ولكن إذا كان المقصود الدلالة على أصل وجوده فإنه يدل على ذلك بلا ريب كما تدل الصورة على ذيها، واللفظ على معناه، والمعلول على العلة الخ..
ونحن لم نقل: إن دلالة المعلول على العلة دلالة تامة وكاملة. إن كان المقصود هو الدلالة على الكنه والحقيقة. ولكننا قلنا: إن وجود المعلول يدل دلالة تامة كاملة على أصل وجود علته.. ولا إشكال في ذلك.
وقوله «عليه السلام»: «يا من دل على ذاته بذاته» إنما يراد به الدلالة على أصل وجود الذات، فإنه تعالى هو الذي أرشدنا إلى وجود ذاته بأنحاء كثيرة من أنحاء الدلالة.. ولكنه لم يدلنا على كنهها لعلمه باستحالة إدراكنا لها.
وهكذا يقال في جميع ما ذكره السائل في بقية رسالته.. فإنه حفظه الله قد كرر أقواله، فالجواب عليها أيضاً يتكرر.. والحر تكفيه الإشارة.
والحمد لله، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، محمد وآله..
|