من هو الأمير الأول في غزوة مؤته
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين
يذكر المؤرخون عموماً أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول في غزوة مؤتة، ثم جعفر ثم عبد الله بن رواحة.
وخالف في ذلك الشيعة – على حد تعبير ابن أبي الحديد – وبعض من غيرهم وقالوا بل الأول هو جعفر ثم زيد.. وقد أيدهم ابن أبي الحديد المعتزلي حيث قال:
"... قلت اتفق المحدثون على أن زيد بن حارثة كان هو الأمير الأول – وأنكرت الشيعة ذلك، وقالوا كان جعفر بن أبي طالب هو الأمير الأول، فإن قتل فزيد بن الحارثة، فإن قتل فعبد الله بن رواحة.
ورووا بذلك روايات، وقد وجدت في الأشعار التي ذكرها محمد بن إسحاق في كتاب المغازي ما يشهد لقولهم... "[1] ثم استشهد بما يأتي من قول حسان بن ثابت، وكعب بن مالك..
بل يمكن أن يستظهر ذلك من اليعقوبي حيث قال:
"... ووجه جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة في جيش إلى الشام، لقتام الروم سنة 8. وروى بعضهم أنه قال أمير الجيش زيد بن حارثة فإن قتل زيد بن حارثة، فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر بن ابي طالب، فعبد الله بن رواحة، فإن قتل عبد الله بن رواحة، فليرتض المسلمون من أحبوا..
وقيل بل كان جعفر المقدم، ثم زيد بن حارثة، ثم عبد الله بن رواحة.. "[2].
وقال العسقلاني عن جعفر: " استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على غزوة مؤتة، واستشهد.."[3].
وقال الطوسي: " على أنه قد اختلفت الرواية في تقديم زيد على جعفر ؛ فروى أن جعفر كان اميراً أولاً، وأنشدوا في ذلك أبياتاً لحسان بن ثابت، وهي الخ... "[4].
ونحن بدورنا نقول إن جعفراً كان هو الأمير الأول، وليس زيداً على عكس ما اشتهر بين المؤرخين والمحدثين..
ونستند في ذلك إلى عدة أمور:
1- الروايات التي أشار إليها ابن أبي الحديد، الواردة عن أهل البيت العصمة والطهارة، كرواية أبان عن الصادق أنه قال: إنه استعمل عليهم جعفراً، فإن قتل فزيد، فإن قتل فابن رواحة.. [5].
وقد قال السيد شرف الدين في هذا المقام إن " أخبارنا في هذا متضافرة، عن طريق العترة الطاهرة... "[6].
2- ما رواه ابن سعد في طبقاته، باسناده عن أبي عامر، قال: " بعثني النبي إلى الشام، فلما رجعت مررت على أصحابي، وهم يقاتلون المشركون بمؤتة. قلت: والله لا أبرح اليوم حتى أنظر إلى ما يصير إليه أمرهم...
فأخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، ولبس السلاح ( وقال غيره أخذ اللواء زيد بن حارثة )، وكان رأس القوم، ثم حمل جعفر، حتى إذاهم أن يخالط العدو، رجع فوحش بالسلاح، ثم حمل على العدو، فطاعن حتى قتل، ثم أخذ اللواء زيد بن حارثة، فطاعن حتى قتل، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة، فطاعن حتى قتل، ثم انهزم المسلمون أسوأ هزيمة.. "[7].
3- الشعر الذي أشار إليه ابن أبي الحديد.. حيث قد روى أن حسان بن ثابت قد رثى شهداء مؤتة فكان من جملة ما قال:
فـلا يبـعـدن الله قتلى تتـابعـوا بمؤتة، منهم ذو الجناحين جعفر
وزيـد، وعبد الله، حـيث تتـابعوا جميعـاً، وأسبـاب المنية تخطر
غداة مضوا بـالمؤمنين يقـودهـم إلى الحرب ميمون النقيبة أزهـر
أغر كضوء البـدر مـن آل هـاشم أبي إذا سيم الضلالة مجسـر[8]
إلى آخر القصيدة.
حيث لم يكتف في هذا الشعر بذكر التتابع جعفر، فزيد، فابن رواحة... بل صرح بأن القائد لهم إلى الحرب ميمون النقيبة أزهر أغر، من آل هاشم، وهو جعفر، رضوان الله تعالى عليه...
4- ما قاله كعب بن مالك الانصاري، في رثاء شهداء مؤتة أيضاً حيث كان من جملة ما قال:
فكأنما بين الجوانح والحشـا ممـا تـأوّبني شهـاب مدخل
وجدا على النفر الذين تتابعوا يـوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلو
إلى أن قال:
فمضوا أمام المسلمين يقودهـم فنق عليهن الحـديـد المـرفـل
إذ يهتـدون بجعفـر ولـوائـه قــدام أولـهـم فـنـعـم الأول
حتى تفرجـت الـصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصفوف مجدل[9]
فقد صرح هو أيضاً بتتابع القواد، وبأن جعفراً كان هو القائد، ولواؤه هو الأول فنعم الأول.. وأخيراً فإن شاعراً آخر من المسلمين، ممن رجع من غزوة مؤتة قد رثاهم فقال:
كـفـى حزناً أنى رجعت وجعفر وزيـد وعبد الله فـي رمـس أقـبـر
قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهـم وخـلـفـت للبـلـوى مـع الـمتغبر
ثلاثة رهـط قـدمـوا فـتقدموا إلى ورد مكروه من الموت أحمر[10]
5- قال عبد الله بن جعفر – أو ابن عباس – لمعاوية: " يا معاوية ما علمت أن رسول الله(ص) حيث بعث إلى مؤتة أمر عليهم جعفر بن أبي طالب، ثم قال: إن هلك فزيد بن حارثة، فإن هلك زيد، فعبد الله بن رواحة، ولم يرض لهم أن يختاروا لأنفسهم.. الخ "[11].
وبعد كل ما قدمناه فلا يبقى مجال للقول بأن زيداً كان هو الأمير الأول في مؤتة.. ويتعين أن يكون سيد الجيش هو جعفر الذي يلاحظ أن النبي(ص) قد أظهر من الغم عليه ما لم يظهره على أحد، حتى على عمه حمزة، كما انه قد سرّ بقدومه عليه من أرض الحبشة سروراً عظيماً، حتى لقد قال – وكان قد قدم عليه حين فتح خيبر -: " لا أدري بأيهما أنا أشد سروراً بقدومك يا جعفر أم يفتح الله على يد أخيك خيبر.. ".
وإذا قد ثبت أن جعفراً كان هو الأمير الأول في غزوة مؤتة، وليس زيد بن حارثة.. فإننا نستطيع أن نفهم ببساطة أن ثمة يداً تحاول أن تشوه الحقيقة وتتجنى على التاريخ ولعل ذنب جعفر الوحيد هو أنه أخو علي عليه السلام، وقد قالت عائشة: ما بعث رسول الله(ص) زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم ولو بقي لاستخلفه، فلماذا تصر عائشة هذا الإصرار في المقام ؟!! حتى جعلته بحيث لو عاش النبي(ص) لاستخلفه !! ولولا علي لتوفرت الدواعي على الاحتفاظ بالحقيقة دون تشويه أو تحريف، هذا إن لم تتوفر على جعل الأمور كلها في صالحه.. ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره..
والحمد لله، وصلاته على عباده الذين اصطفى ولاسيما جعفر وعلي، والأئمة الطاهرين من ولده الطيبين..
جعفر مرتضى العاملي
[1] شرح النهج للمعتزلي ج15 ص62، وأعيان الشيعة ج2 ص324 عنه.
[2] تاريخ اليعقوبي ج2 ص65 طبع صادر.
[3] تهذيب التهذيب ج2 ص198.
[4] تلخيص الشافي ج1 ص227.
[5] مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشهوب ج1 ص205، والبحار ج21 ص55، وأعلام الورى ص110 طبعة ثانية، وأعيان الشيعة ج2 ص324.
[6] النص والاجتهاد ص85 طبع سنة 1386ﻫ.
[7] طبقات ابن سعد ج2 قسم1 ص94 طبع ليدن. وكنز العمال ج10 ص336 عن ابن عساكر.
[8] سيرة ابن هشام ج4 ص26، والبداية والنهاية ج4 ص260، وسيرة زينى دحلان ج2 ص72، والإصابة ج1 ص238، وأعيان الشيعة ج2 ص324، وشرح النهج للمعتزلي ج15 ص63، وديوان حسان، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج1 ص100.
[9] البداية والنهاية ج4 ص261، وسيرة ابن هشام ج4 ص27،28، ومقاتل الطالبين ص15 وأعيان الشيعة ج2 ص325 وشرح النهج ج15 ص63 وتهذيب ابن عساكر ج1 ص102.
[10] سيرة ابن هشام / ج4 ص30، والبداية والنهاية / ج4 ص258، 259 ما عدا البيت الثالث.
[11] كتاب سليم بن قيس / ص188 ط النجف، وقاموس الرجال / ج6 ص40.